د. إعصار الصفار
منذ سقوط نظام صدام في العراق عام ٢٠٠٣ وحتى اليوم يتم الكلام كثيرا عن تقسيم العراق. هذه الرنَّة قد تخف وتقوى، الا انها دائما موجودة ليس في بعض التعليقات والمقالات الصحفية فحسب، ولكن في اذهان جميع العراقيين والمطلعين على الشأن العراقي. ولكن ما هي احتمالات ذلك؟ وهل هذا الامر حقا سيتحقق يوما؟ بل وهل هو ممكن أصلا؟
ما ان يذكر تقسيم العراق، حتى تقفز الى الأذهان ٣ دويلات، كردية في الشمال وسنية في الغرب وشيعية في الوسط والجنوب. ولا بد من الإشارة هنا الى انه وبالرغم مما يُروَّج له، فان من يتمنى للعراق التقسيم من العراقيين لا يمثلون الأغلبية. وبالتالي، فان الذي قد يتحكم بتقسيم العراق من عدمه هو مصالح القوى الدولية والإقليمية، والتي قد تستطيع ان تفرض التقسيم على العراق، كما فُرِضَ على السودان مثلا.
من المعروف ان هناك مقومات لأي دولة، تضمن استقلالها وتنظم العلاقات بين مواطنيها وتدير علاقاتها مع الدول الأخرى. كما ولا بد من موارد بشرية واقتصادية تديم الحياة فيها وجيش قوي قادر على حماية حدودها.
على ضوء ذلك، لننظر الى إمكانية انفصال كل دويلة مفترضة ومقومات وجودها واستمرارها:
دويلة كردية في الشمال
لقد تمتع اقليم كردستان باستقلال ذاتي منذ أيام صدام بعد اتفاقية آذار عام ١٩٧٠، وقد تعزز هذا الامر بعد حرب الخليج الأولى عام ١٩٩١والحماية التي تمتع بها الإقليم بحظر طيران القوات الحكومية المركزية شمال خط ٣١. وهكذا، فلاقليم كردستان العراق باع طويل في الحكم الذاتي، وفي الكثير من الأمور يتصرف وكأنه دولة مستقلة. كما انه، ومنذ السقوط عام ٢٠٠٣، يمارس انتخابات لرئاسة الإقليم وكذلك انتخابات نيابية. وبالرغم من وجود حزبين قويين في الإقليم غير متوائمين تماما، الا ان هذا ليس أمرًا سلبيا بحد ذاته، كما انهما تعايشا بشكل جيد طيلة هذه السنوات. كما ان لاكراد العراق قوة عسكرية متمثلة بالبيشمركة وهي قوة موجودة من عقود طويلة ولها باع في القتال الجبلي، وبعد سقوط النظام تحسن تمويلها وتسليحها وتدريبها. يبلغ تعداد سكان كردستان العراق حوالي ٤ ملايين حسب التقديرات، وهو وان كان قليلا نسبيا، الا انه مناسب لحجم اراضي كردستان، كما انه بالإمكان استقطاب مهاجرين الى المنطقة نظرا للاستقرار الذي تتمتع به.
إذن، فللاكراد مؤسسات حكومية وإدارية وتشريعية متماسكة وعريقة تمتلك قابليات إدارة دولة كما انهم يتمتعون بجيش قادر على الدفاع عن الدولة لو تأسست. يضاف لكل هذا، الشعور الجارف لدى كل كردية وكردي بالتوق للاستقلال. فقد تم تمزيق الأكراد بطريقة لئيمة بعد الحرب العالمية الأولى وتم توزيعهم على العراق وسوريا وتركيا وايران، وطيلة تاريخهم، قام الأكراد بمحاولات متعددة بعضها سلمية واغلبها غير سلمية ودفعوا أثمانا باهظة لتحقيق هذا الحلم دون جدوى. هذا الزخم الجماهيري لدى الأكراد سيكون له الدور الأكبر في دعم تكوين هذه الدولة وإدامتها لو تمت إقامتها.
يضاف الى ذلك، فان كردستان العراق تصدر مئات الآلاف من براميل النفط يوميا مما يوفر موردا اقتصاديا مهما يضاف الى الزراعة والسياحة. ومع ذلك فان كردستان العراق تحتاج الى المزيد من الموارد الاقتصادية لإدامة بنية دولة والتنمية في مختلف المجالات. وبالرغم من صعوبة، ان لم يكن استحالة، استحواذ الأكراد على كركوك ذات الأغلبية التركمانية، الا اننا رأينا استماتتهم لضمها الى الإقليم لترفد مقومات الدولة القوية المستقلة. ولم يكن أكراد العراق اقرب من تنفيذ حلمهم بالاستقلال منهم حين احكموا قبضتهم على كركوك بحجة حمايتها حين اجتاحت داعش شمال العراق عام ٢٠١٤، وما تبع ذلك من استفتاء في الإقليم على الاستقلال عام ٢٠١٧ والذي جاء مؤيدا باغلبية شعبية عارمة وسط شعور بتأييد أمريكي ودولي للأمر. وواقعا، لم ولن تتوفر للأكراد فرصة في كل تاريخهم أفضل من هذه للاستقلال، ومع ذلك فقد تم إجهاضها في نفس عام الاستفتاء حين خذلتهم امريكا وتقدمت قوات الحكومة العراقية المركزية واستعادت كركوك من قبضتهم، وتمت تنحية هذا الملف جانبا الى اجل غير مسمى.
بالرغم من مقومات الدولة التي تتمتع بها كردستان العراق، الا ان استقلال أكراد العراق (او آي تجمع كردي في اية دولة اخرى) سوف لن يتحقق، فهو الامر الوحيد الذي تتفق عليه حكومات كل من العراق وتركيا وسوريا وايران بالرغم من اختلاف توجهات هذه الحكومات. كما انه من الواضح ان امريكا نفسها لا تريد هذا الامر حين خذلت، وبشكل سافر، أكراد العراق واكراد سوريا في الفترة القريبة الماضية. لقد تم استخدام الأكراد كاداة بيد جهات عديدة ادعت صداقتها لهم وفي الواقع كانت تستعملهم حطبا لنيران تخدم مصالح تلك الجهات. وللأسف، فان حلم الأكراد الجامح بالاستقلال جعلهم يذهلون ولا يتعلمون الدرس وبقوا يرتكبون الخطا نفسه مرة بعد مرة.
دويلة سنية في الغرب
هذا الاحتمال اوضح الاحتمالات في ضعف حظوظ تحققه. فالمجتمع في تلك المنطقة مجتمع قَبَلي عشائري تصعب قيادته من إدارة واحدة. من جهة اخرى فان الثروة البشرية ليست متوفرة، اذ يقدر تعداد المحافظات السنية اقل من ٣ ملايين، واذا ضممنا جدلا الموصل لهذه الدويلة، فسيصبح التعداد حوالي ٥ ملايين، وهو ليس بالعدد الكبير قياسا لمساحة تلك المحافظات. كما ان تلك المنطقة لا تمتلك ثروات طبيعية تصلح ان تكون مقوما لدولة. وبالرغم من سماعنا عن اكتشاف مخزونات نفطية في المنطقة، الا ان هذا الامر ليس مؤكدا، وحتى ان كان مؤكدا فلن يثمر في المستقبل القريب. يضاف لذلك ان ليس لهذه المنطقة قوة عسكرية منظمة وموحدة. صحيح ان هناك قوات عشائرية مسلحة وبين الحين والآخر تظهر تشكيلات مسلحة اكبر حجما وافضل تنظيمًا، مثل الصحوات، الا ان هذه ليست متماسكة وسرعان ما تتفكك وتعود الى ولاءات العشيرة. اما إدارة الحكم، فسيعتريها ما يعتريها لقلة الخبرة من جهة والحس العشائري من جهة اخرى. وصحيح ان غالبية الوزراء في عهد صدام ونسبة كبيرة من وزارات ما بعد السقوط هم من السنة، الا ان هذا لا يشكل تجربة متكاملة لإدارة دولة مستقلة.
النقطة الأهم التي قد تدعم إمكانية تشكل مثل هذه الدويلة هي حاجة امريكا وحلفائها الى اسفين يقطع ما اصطُلِحَ عليه بـ “الهلال الشيعي” حتى يتم قطع ايران عن تجهيز ودعم سوريا وحزب الله اللبناني لأسباب معروفة. لكن ايجاد كيان يفتقر للإمكانيات الإدارية والاقتصادية والعسكرية، يجعل من هذا الاحتمال أمرًا غير راجح ومكلِّف للغاية، وبالتالي، فان إنشاء دويلة مستقلة في غرب العراق معادلة سوف لن يكتب لها النجاح.
دويلة شيعية في الوسط والجنوب
دويلة مثل هذه، لها مقومات نجاح ذاتية كبيرة، فثرواتها الطبيعية والمائية كبيرة، وواقعا هي ممول العراق الرئيسي. ويقدر تعداد نفوسها حوالي ١٤ مليون نسمة. يضاف لذلك وجود قوى عسكرية منظمة ومجهزة بشكل جيد ولها خبرات قتالية عالية كان لها الفضل الأساس في دحر داعش في حرب مدن من اصعب ما يكون. الا ان المشكلة التي ستواجه مثل هذه الدويلة، هي الإدارة. فهذه المناطق العراقية كانت مضطهدة لعقود طويلة وتم قمعها بقسوة وشدة فترة حكم صدام، وبالتالي فلم تتوفر لهم فرصة إنشاء مؤسسات حكومية او حكم ذاتي باي شكل كان، ولم تتراكم عندهم الخبرة اللازمة. وحتى بعد السقوط، وان كان المتعارف ان رئاسة الحكومة شيعية، ولكن واقع الحال غير ذلك نتيجة المحاصصة والتدخلات الإقليمية والدولية. وجود المرجعية الدينية وولاء غالبية سكان هذه المناطق لها قد ينجح في سد النقص في الهيكلية التنظيمية لدولة، الا ان المرجعية نفسها لم تتصدَ للقيادة فضلا عن الإدارة، واكتفت بالدور الإرشادي. وهكذا، فلا توجد ضمانات في هذا المجال. وأي ادارات، ان تشكلت، فستتشكل ممن حكم العراق بعد السقوط بكل ما يعتور هؤلاء من ضعف وسوء إدارة.
يبقى هناك أمر غاية في الأهمية وهو هل من مصلحة امريكا وحلفائها في المنطقة تكوين دويلة شيعية تشترك بالحدود لمئات الكيلومترات مع عدوهم اللدود، ايران! السماح بقيام مثل هذا الكيان، سيكون ضد المصالح الامريكية، اذ ان ذلك سيشجع على قيام اتحاد، رسمي او غير رسمي، بين هذا الكيان وايران مما يعزز قوة ايران الاقتصادية والبشرية والاستراتيجية، وهو امر لا تريده امريكا ولن تسمح به مهما كان الثمن.
ومما يزيد الصورة تعقيدا هو تداخل المصالح الاجتماعية والاقتصادية بين هذه المناطق وبعضها، فهل سيتم اجلاء المواطنين كل الى إقليمه بعد تصفية مصالحهم المتداخلة؟ أم السماح لهم بالبقاء لا كمواطنين بل كمقيمين! ونحن هنا نتكلم عن أعداد كبيرة وليس أفرادا.
يضاف لكل ذلك ان هناك بعض المحافظات ستبقى مشكلة مستعصية مثل بغداد والموصل وديالى وكركوك.
فماذا سيحل ببغداد بسكانها الذين يزيدون عن ٥ ملايين نسمة؟ هل يتم ضمها لأي دويلة، أم يتم تقسيمها؟
وهل سيتم ضم الموصل للدويلة السنية؟ وحتى لو افترضنا مواقفة سكان الموصل بهذا الامر، فهل سيقبل الأكراد بذلك! ام هل ستقبل تركيا، التي كانت وما زالت تحلم بضم الموصل اليها؟ وقد تستغل تركيا الفرصة وتعمد لاحتلالها.
اما كركوك ، فقد تم الكلام عنها.
وماذا عن ديالى بتركيبتها السكانية المعقدة حيث يسكنها عرب واكراد وتركمان، وفيها سنة وشيعة. كل هذا سيشكل تحديات كبيرة يجعل ضمها لأي من الدويلات الثلاث صعبا، ان لم يكن مستحيلا.
وهكذا، فلن يتم حسم امر هذه المدن لهذا الطرف او ذاك وستكون مصدر نزاع له اول وليس له اخر، ليس بين هذه الدويلات فقط، ولكنها ستفتح المجال لتدخلات إقليمية سافرة وواسعة قد تؤدي لاقتطاع اجزاء كبيرة من العراق وإلحاقها بدول اخرى، والذي بحد ذاته سيكون فتيل حروب دولية واسعة تكون امريكا وروسيا، وغالبا دول اخرى، أطرافا مباشرة او غير مباشرة فيها.
وهكذا نرى ان التلويح بخطر تقسيم العراق ليس واقعيا اذ ليس له أساس عملي ولا سياسي، لا على صعيد العراق ولا المنطقة ولا العالم.
وبالتالي، فان تقسيم العراق سوف لن يتحقق، في المستقبل المنظور باقل تقدير.