بل لم يك أيضآ ولا خطر ببال أشد المتشائمين، أن تقف الدول الأكثر تقدما صناعيا، على رأس قائمة الأكثر تضررا من وباء كورونا، وهذا ما يستدعي إعادة حساب النظريات والاطاريح.
تحدثت تلك النظريات التي حكم بها العالم، عن تطور مفهوم الدولة، من الدولة الحارسة إلى الراعية ثم دولة الرفاهية، التي تحدثت عنها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، في حكم رونالد ريغان ومارغريت تاشر.
كانت تلك الدول تعتقد بأن تطورها ووصولها إلى الرفاهية، بتكامل قواها السياسية والعسكرية والاقتصادية، أنها بذلك ستسيطر على المنظومة العالمية، وهذا ما تعتقد إنه سيعود بالرفاهية لشعوبها، ولم تتحدث او تفكر عن أن هيمنتها سنتعكس بالإيجابية ورفاهية المنظومة العالمية وتكامل خدمة الأمم لبعضها.
تبلورت تلك الأفكار إلى تطوير الصناعات وفي مقدمتها الحربية، التي كلفت العالم اثمانا باهضة فاقت في بعض الدول عشرات الأضعاف لموازنات الصحة والتعليم، وخاضت حروبا باهضة ومصطنعة وأنشأت أسواقا لبيع السلاح، وعاشت الدول الكبرى سباقا لتمرير صفقاتها، بأسماء براقة كحرب النجوم والباردة ومسميات النظام العالمي الجديد وسباق التسلح والردع وغيرها من مسميات، لغرض استنزاف الثروات وتحويلها إلى أسلحة ومعدات عسكرية وجيوش.
مقابل هذا التطور وضعت تلك الدول قيود على أمم أخرى، بذرائع شتى، ومنها حقوق الإنسان، ومنعتها من تطوير منظوماتها العسكرية وصناعاتها الحربية، وهذا ما دفع دول كاليابان والصين وألمانيا، إلى تطوير قدراتها التكنولوجية، وبدأت هذه الصناعات تغزو الأسواق العالمية بما فيها الأمريكية والأوروبية، رغم القيود والعقوبات ولكن حاجة السوق فرضت ذلك.
لم تتوقع دول الرفاهية أن فايروسا وبائيا يفقدها السيطرة، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا أكثرها استهزاء وعلى لسان رؤوسائها، إلى أن أصيب ولي العهد البريطاني ورئيس وزرائها بالكورونا، فيما تفاقمت الإصابات في أمريكا وتقدمت لتصبح أكثر الدول أصابة، وتحول الرئيس الأمريكي إلى مرشد صحي ينصح بلبس الكمامات وغسل الأيدي وتقليل التلامس؟
كشف الوباء عن الإنهيار الذي تعيشه دول تدعي أنها في ثمانينات القرن الماضي وصلت إلى الرفاهية، وحاولت أن تنقل تجربتها أو تفرضها على المنظومة العالمية، لكن تبين أنها كانت جادة في تطوير هائل في صناعة السلاح والتفنن في خلق النزاعات وتغذية الاقتتال، لتحرك اقتصادها المعتمد على الأدوات الحربية، وصناعة السلاح وفرض الهيمنة وأبتزاز الحكومات، للقبول بخططها التي تصب بمصالح على حساب تلك الدول ومواطنيها، مع الإبقاء على حكام موالين لسياساتهم.
إن المنظومة العالمية بحاجة إلى إعادة قراءة، وربما كورونا ستغير موازين القوى، وقوى الردع ستتراجع أمام وباء لم تتخذ تلك الدول كل الاحتياطات، بل توقعت أن قوتها الحربية ستقهر أية قوة، فيما وقفت عاجزة والاساطيل العسكرية أدوات للقتل ليس فيها كمامات ولا أجهزة تنفس صناعي، وها هي أمريكا تحرك بارجة حربية لتحويلها مستشفى، بينما الصين الأكثر كثافة سكانية في العالم، استطاعت محاصرة الفايروس بالتكنولوجيا لرصد الوباء والإنسان الآلي لمساعدة البشر في منع نقل العدوى وإيصال الخدمات، مع وجود شعب مسالم أطاع التوجيهات الحكومية والصحية، في حين دول أخرى كانت وما تزال تهتم بصناعة السلاح، فسارع شعبها لشراء أسلحة شخصية، خوفها من الإنهيار الأمني وإنتشار العصابات.
كورونا لا يرى بالعين المجردة، ولا تعرف بالضبط آليات انتقاله، وأستطاع مهاجمة أكبر المنظومات وتجاوز أجهزة التجسس والرصد والتعقب والصواريخ الحرارية وقاذفات الصواريخ وطائرات التجسس، وكشف عن أن دول ما تسمى الرفاهية، ما أدواتها إلا لصناعة الموت والإبادة الجماعية، وكل شيء بما فيه حياة البشرية أستخدم لأغراض سياسية، وأتخذ من الوباء محل استهزاء وتشفي في بعض الدول، وحينما اشتد جماح الوباء حطم منظومات تعقدها الشعوب صعبة الإختراق، ولا تعتقد يوماً بإنهيارها أو إنهيار الدولار الذي لا منافس له.
لا يصح إلا الصحيح والبقاء للإصلح وليس للأقوى، والصلاح والقوة أن تصنع ما يخدم الإنسانية، وثمن طائرة أو قاذفة صواريخ، يساوي ثمن آلاف أجهزة التنفس الصناعي واقنعة الوقاية، وبالنتيجة ستنتصر الإنسانية على أدوات القتل والإبادة، وسيطلب القاتل دواء من المقتول، ولكن المقتول والمحاط بالعقوبات الدولية سيكون أكثر رحمة من تلك الدول التي تسمى نفسها بصناعة الرفاهية ولكن أدواتها دمرت البشرية، وعجزت عن مجابهة فايروس كورونا الذي لايرى بالعين المجردة بكل أدواتها الحربية، وهذا ما سيطيح بالدولار ويأتي بعملة منافسة، بل بصناعات أكثر خدمة للبشرية.