ما لا يعرفه الكثيرون أن جامعة جونز
هوبكنز الأمريكية هي الآن من أهم مصادر
المعلومات بل باتت وبسبب هيمنة الولايات المتحدة على الإعلام، المصدر الرئيس عن
كورونا. ومنذ بدء تفشي الوباء ، أطلقت الجامعة موقعًا أليكترونياً خاصًا عن فايروس
كورونا أصبح المصدر الأكثر إعتمادا في الولايات المتحدة وفي العالم ، لا سيما بشأن
أرقام الإصابات والوفيات.
وجامعة جونز هوبكنز تأسست في العام 1876 في مدينة بالتيمور بولاية
ميريلاند في بداية انطلاق الولايات المتحدة كقوة عظمى قادمة شكلت نمطاً جديداً من
الجامعات قد تأسَّس آنذاك ، إنّه «جيل الجامعات البحثية» حيث الهدف الظاهر هو البحث والعلم، والناتج المعرفي ، والإنتاج
الصناعي ، والعائد الاقتصادي .. أو فى جملة واحدة: ،حيث الجامعة هي الدولة، وراج
بذلك مفهوم الجامعة البحثية الحديثة الخاصة في الولايات المتحدة ، وتقع. وقد صنفت
مؤسسة العلوم الوطنية (NSF) جامعة جونز هوبكنز JHU) Johns Hopkins
University) في المرتبة الأولى بين المؤسسات
الأكاديمية الأمريكية من حيث إجمالي الإنفاق على الأبحاث والتطوير في المجالات
العلمية والطبية والهندسية على مدار 31 عاما متتاليا.
بدأت جامعة «جونز هوبكنز» بموجب تبرع من رجل
الأعمال «جونز هوبكنز»، ويعادل رقم التبرع اليوم 150 مليون دولار. وقد كان ذلك هو
أكبر تبرع خيري فى تاريخ أمريكا حتى ذلك الوقت. ومن المفارقات المثيرة أن رجل
الأعمال المعاصر «مايكل بلومبيرغ» قد تبرع عام 2018 لجامعة «جونز هوبكنز» التى
تخرج فيها، وكان تبرعه الذى يقارب ملياري دولار هو أكبر تبرع فى تاريخ التعليم
الأمريكي منذ نشأته وحتى الآن.
يدرك «بلومبيرغ» تماماً جوهر عمل جامعته، ولذلك
فقد خصص التبرع لصالح الطلاب الموهوبين من غير القادرين مالياً، وذلك لاجتذاب
الطلاب الأكثر نبوغاً والذين قد لا يكون بمقدورهم دفع تكاليف الدراسة كافة التى
تزيد على 70 ألف دولار سنوياً.
ولكي نعرف ماذا تفعل هذه الجامعات البحثية لابد
من الاطلاع على ما كتبه جوناثان كول أستاذ جامعة كولومبيا وعالم اجتماع العلم
المرموق، في كتابه "جامعات عظيمة" قصة الجامعات البحثية العظيمة في
أمريكا، وكيف تحوّل الهدف لهذه الجامعات من تعليم الطلاب إلى إنتاج المعرفة.
فالمعروف أن مفهوم تداول المعرفة يفترض في
الغالب أن المعرفة لا تتنقل فقط، ولكن يتم إنتاجها أيضاً في مكانها الجديد. ولذلك
ينبغي أن تتم دراسة التنقل من خلال دراسة الحالة والمنهجيات النوعية التي تساعدنا
لمتابعة فاعليها.
ويقدم مفكرو مابعد الكولونيالية ومنهم نيكولا
جيلهوت مثالاً حول التداول الدولي للأفكار، إذ يرفض تعريف العلاقات الدولية على
أنها "علم اجتماعي أميركي"، حيث تم تطويره لأول مرة في الولايات المتحدة
وتصديره في وقت لاحق إلى فرنسا، لأن نظرية العلاقات الدولية لم تصمم لتكون
"علوماً اجتماعية". وكان هذا لا يتماشى مع التقاليد الفكرية الأميركية،
لأن الواقعية في ما بعد الحرب لا تمت بصلة إلى البيئة الأميركية آنذاك. لقد دان
جيلهوت النزعة القومية المنهجية (methodological nationalism)
التي تبعها بورديو في نظريته حول الحقل (field) ليفهم التداول الدولي للأفكار.
وتماما فان كتاب جوناثان كول عن "الجامعات
العظيمة" قال عنه تورستن فيلز الرئيس الفخري لجامعة "روكفلر"
الحاصل على جائزة نوبل فى الطب إنه كتاب رائع تمنيت لو قرأه كل قادة الجامعات فى
بلادنا..يجب أن يقرأه الجميع".
إن جوهر "الجامعات العظيمة" فى
أمريكا هو تقديم العلماء وليس الخريجين. وحسب أستاذ جامعة كولومبيا والحاصل على
جائزة نوبل فى الطب «إريك كاندل»: «يعتقد كثيرون أن المهمة الرئيسية للجامعات هى
نقل المعرفة، ويفوتهم أنّه لا يمكن الفصل بين التعليم والبحث. يجب أن تستمر
الجامعات الأمريكية فى اكتشاف أنواع جديدة من المعرفة، وأنماط جديدة من التفكير.
وإذا أرادت واشنطن أن تحافظ على القيادة فى الاقتصاد فى القرن الحادي والعشرين،
فعليها إدراك هذه المهمة الأكاديمية بوضوح.
من هنا فإن كلام «كاندل» دقيق للغاية، ذلك أن
80% من الصناعات الأمريكية الجديدة تعتمد على اكتشافات قامت بها جامعات أمريكية.
ولقد أدركت الجامعات البحثية أو «الجامعات
العظيمة» أن مهمتها هى تقديم الاكتشافات العلمية في العالم، وتقديم الأبحاث
المنتجِة، وإعداد الشباب ليكونوا قادةً فى البحث والعلم، ذلك أن الإبداع
والابتكار، ونقل العلم إلى الصناعة.. هو ما جعل الجامعات الكبرى أساس تقدم أمريكا.
ويجب أن يعرف العالم أن أمريكا لم تبتكر فكرة
«الجامعات البحثية» بل إنها قامت نقلتها من أوروبا، فحين بدأت جامعة هارفارد عام
1636 كانت ذات نزعة دينية، وكان «بنيامين فرانكلين» هو من أسس منهجاً بعيداً عن
الأهداف الكنسية لجامعتي «هارفارد» و«ييل»، واعتمد بديلاً عن ذلك وهي العلوم
والدراسات العملية. وقد تأثرت خريطة هارفارد على أثر هذا المنهج، بحيث تراجع عدد
طلاب «اللاهوت»، وزاد عدد طلاب «العلوم». وفى عام 1834 وبينما كان عدد طلاب الطب
فى هارفارد 80 طالباً، كان عدد طلاب اللاهوت 30 طالباً.
راح قادة الجامعات فى أمريكا يقلدون النموذج
الألماني.. أى أن تكون الجامعة للعلم وليست فقط للتعليم. كانت ألمانيا سابقة على
نحو صادم، ويذكر «جوناثان كول» في كتابه "جامعات عظيمة" إنّه حين زار
رئيس جامعة كولومبيا «نيكولاس باتلر» جامعة برلين عام 1884، قال: «الطريق أمامنا
طويل للغاية، حتى نصل إلى مكانة متساوية مع جامعة برلين فى التقدم والرقي». وينقل
عن أول رئيس لجامعة «كورنيل» أندرو وايت: «جامعة برلين هى المثل الأعلى للجامعة..
يجب أن نقلد ذلك فى أمريكا».
ثلاثة قادة كبار كانوا وراء صناعة «الجامعات
العظيمة» فى أمريكا، والانتقال من «التعليم» إلى «البحث»: بنيامين فرانكلين فى
جامعة بنسلفانيا الذى ابتعد عن التأثير الكنسي على الجامعات، ورجل الأعمال «جونز
هوبكنز»، الذى أسس أول جامعة بحثية مرموقة، و«دانيال جيلمان» أول رئيس لجامعة
«جونز هوبكنز»، وأول من قاد «جامعة بحثية» فى تاريخ أمريكا.
تأسست جامعة «جونز هوبكنز» بعد مائة عام من
الحرب الأهلية، لتكون أول جامعة تهتم بالبحث العلمي . أخذ «جيلمان» نموذجه من
جامعات ألمانيا الكبرى: جامعة برلين وجامعة جوتنجن. وفى عام 1884 كان فى جامعة
«جونز هوبكنز» أكثر من 50 أستاذاً درس معظمهم فى ألمانيا، وكان يشار إلى جامعة
«جونز هوبكنز» فى بالتيمور باسم «جامعة جوتنجن فى بالتيمور».
فى عام 1901، تقاعد «جيلمان» بعد أن أصبح قادة
التعليم فى أمريكا قد مضوا وراءه فى الثورة التى أطلقها فى مفهوم الجامعة. وينقل
«كول» عن المفكر الشهير فى جامعة شيكاغو «إدوارد شيلز» قوله: «إن تأسيس جامعة جونز
هوبكنز هو الحدث الحاسم فى تاريخ نصف الكرة الغربى».
فى النصف الأول من القرن العشرين، سادت جامعات
ألمانيا، وكانت هى الأفضل فى العالم، وكانت جامعات أمريكا تأخذ منها لتصبح قريبة
من مستوياتها. لكنّ صعود وانهيار «أدولف هتلر» قد أدى إلى تبديل المواقع، حيث
استمرت جامعات أمريكا البحثية فى طريقها، بينما تراجعت جامعات ألمانيا. ولقد زادت
الفجوة بين الجانبين سنوات عديدة بحيث سيطرت أمريكا على المراكز الأولى فى تصنيف
الجامعات، بينما لم تحصد ألمانيا مركزاً واحداً فى الجامعات الخمسين الأولى فى
العالم.
حين كانت «جونز هوبكنز» تمضى على خطى النماذج
الأعلى فى ألمانيا، كان هناك قائد جامعى كبير بالتوازى مع «جيلمان»، رئيس «جونز
هوبكنز».. إنه «تشارلز وليام إليوت» رئيس جامعة هارفارد، الذى غيّر من مفهوم
الجامعة، وقادها إلى حيث قادت هى حركة البحث العلمى فيما بعد.
كان هناك دوماً خطّان متوازيان، رجال الأعمال
وقادة الجامعات. كان «جونز روكفلر» فى النفط، ثم جامعة «روكفلر»، وكان «أندرو
كارنيجى» فى الحديد والصلب، وكانت مؤسسة «كارنيجى»، وكان «واشنطن ديوك» فى التبغ
وكانت جامعة «ديوك». لم يكن هدف رجال الأعمال هو الربح، ولم يكن هدف قادة الجامعات
هو تخريج الطلاب. وهنا جاء هذا التحالف الرائع بين نموذجين من الوعي أدّى إلى
تأسيس القوة الأمريكية المعاصرة.
إن معظم الإنتاج الجديد فى أمريكا قد جاء من
هذه الجامعات. ولولاها ما كان الإنتاج ولا الاقتصاد، لا فى السلام ولا فى الحرب.
لولا الجامعات البحثية، ومختبرات العلوم، وبراءات الاختراع، ما كانت المصانع ولا
الشركات، وما كان الإنتاج ولا التصدير. وفي قولة واحدة: «ما كانت أمريكا هى أمريكا».
لم ينته التاريخ بعد، واليوم تحاول جامعات
الصين أن تأخذ من أمريكا ما سبق أن أخذته من ألمانيا. إن برنامج «الألف موهبة» فى
الصين، والذى تجرى بشأنه محاكمة رئيس قسم الكيمياء فى جامعة هارفارد «تشارلز
ليبر».. يمثل نموذجاً لمحاولة الإحلال الصيني محل الولايات المتحدة فى مجال البحث
العلمي .
تدرك الصين أن «البحث» هو الذى قاد أمريكا إلى
صدارة العالم، وأن المعادلة التى تحكم فلسفة العصر الحديث هى أن الجامعات العظيمة
هى التى جعلت أمريكا قوة عظمى، وأن مَن يملك العلم يملك العالم.
فهل من مدكر ؟!