محمّد صادق الهاشميّ |
كلام في الاجتماع.
عواملُ عديدة رسّخت الفساد في السلوك الاجتماعي السياسيّ والتي تسرّبت وتلازمت في سلوك الأجيال، جيل بعد جيل حتّى تحوّلت تلك الظاهرة إلى إحدى ميزات الشخصية السياسية العراقية – أقصد البعض منهم – ولمعرفة أسباب التلازم السلوكيّ أنّ العراق لم يحكم ضمن موازين محددةٍ، وقوانين ومقررات دستورية ثابتةٍ، بموجبها يتمّ تحديد سلوك الحاكم، بل ظلَّ الحكم مبنيّاً على المزاج الخاصّ بالحاكم (سايكولوجية الحاكم) وآرائه، ونظرياته، وأفكاره ومقرراته، وغالباً ما يكون قرار الحكم مبنيّاً على إملاءات الخارج ومصالح الغرب والدول الطائفية، التي تتقاطع مع مصالح المواطن العراقي، ومكوّنات الشعب العراقي، واتفق أنَّ المصالح الشخصية للحكّام التي التقت مع مصالح الخارج عبر التاريخ سواءً أكانت الدولة العثمانية، أم الصفوية، أم الاتحاد السوفيتي، أم المرحلة الملكية أو مرحلة حكم الولايات المتحدة الأمريكية، وولّد هذا التلاقي فساداً مزمناً في المسيرة السياسية عبر التاريخ المعاصر. ومن يدّعي أنّ العراق توجد في تاريخه دساتيرُ عدّة، فقد تمّت الاشارة إلى أنّها لم يُعمل بها، حتّى قال الشاعر:
علمٌ ودستورٌ ومجلسٌ أمّة كلٌّ عن المعنى الصّحيح محرّفُ.
وقد بلغ الفساد الدستوري أنْ تلخّصت واختزلت الدولة بالحكومة، والحكومة بالحاكم، وقد اُلغيت الدولة ومؤسساتها، وتحوّلت إلى حكم الفرد المطلق، وقد جاهر صدام حسين بهذا المنهج الفاسد قائلاً: « أنا القانون، وأنا أصنعه وأكتبه بيدي » .
أما أسباب غياب الحياة الدستورية فإنّها تعود إلى ما يلي:
1. تاريخ أربعة قرون تقريباً من حكم العثمانيين ـ إذ كان الولاة يفعلون ما يشاؤون من خلال الاجتهادات الشخصية التي هي غالباً مبنيّة على مراعاة مصالحهم ـ انتهت بالعراق إلى مزيد من الفساد، والفوضى ، والمجاعات التي بلغت أنْ بيعت أعراض النساء في بغداد.
2. الحكم القبلي الذي سيطر على العراق فإنّه لم يشجّع على أنْ تقوم دولةٌ قويّةٌ متماسكةٌ قادرةٌ على تنفيذ القانون وتطبيقه, ومن يتابع تاريخ العراق يجد أنّ ثقافة المجتمع مبنيّة على احترام الحاكم القويّ السفّاك غير العادل، وإلّا فإنه يواجه جبروت القبائل، وطغيان ما ورثه المجتمع من ثقافةِ التمرّد على الحكم والحاكم.
3. غياب الحياة الدستورية، وذلك لمجيء الدستور متأخّراً في حياة العراقيين السياسية، فالدولة العثمانية شرّعت الدستور عام 1908م في مراحل متأخّرة من المسيرة السياسية للحكم العثمانيّ, لذا فإنّ الثابت تاريخاً أنّ زمناً طويلاً عاش فيه العراقيون وتربوا عليه من دون أيِّ حياةٍ دستوريةٍ، وحتّى دستور 1925م الذي أقرّ في المرحلة السياسية الملكية، وما بعده، كان فيه تغييبٌ لشرائح ووسط اجتماعي إزاء أوساط اجتماعية أخرى، فهو غير عادل كي تتفاعل معه الأمّة العراقية جميعها, ممّا رسّخ طغيان طبقة اجتماعية واستيلائها على الثروات وحرم أخرى .
4. وجود الثروات العراقية: فإنَّ أحد أبرز أسباب الفساد السياسي والمالي والإداري والأخلاقي في العراق هي الثروات الهائلة فيه كالنفط والغاز الزراعة والتجارة واليد العاملة، هذه الأمور جعلت الطبقات السياسية ـ في التاريخ المعاصر والقريب ـ تحاول جاهدةً الاستبداد بالثروات بعيداً عن الرقابة البرلمانية، وبعيدةً عن أيِّ مساءلةٍ قانونيةٍ أو مؤسساتيةٍ، بل تعمل بسبب ذلك و من أجل إضعاف أيّ مؤسسةٍ رقابيةٍ في الدولة على حصر السلطات بهم وتعطيل القانون ، لذا تكرّست سياسة فردية مستبدّة لغرض الاستيلاء على الثروات من دون رقيبٍ.
ولنفس السبب، ولأسباب أخرى من حبّ السلطة والثروات والجاه، حاول الحاكمون في التاريخ أنْ يؤسّسوا لهم قاعدةً تحيط بهم، من خلال توزيع السلطات على الأقارب، وأبناء العشيرة، والعمومة، وأبناء المنطقة، ترسيخاً وحماية لسلطتهم، وليس الأمر بجديد؛ فإنَّ منهج الانقلابات هو منهج ورثه الحاكمون في العراق، وصار ثابتا وملازما في ثقافتهم السياسية الحكومية؛ لقربهم من سلاطين بني عثمان الذين حكموا العراق قروناً على منهج الانقلابات واستبعاد المعارضين أو المعتدلين، والاعتماد على الأقارب والموالين وأبناء العمومة، وأبناء المنطقة، والحزب والنفعيين .
بل كانت أحياء بغداد زمن المماليك ـ الذين حكموا العراق تقريبا (80) عاما ـ موزّعةً في الولاء على الحكّام، فنجد أبناء الأحياء يقاتلون بعضهم تأييداً للسلاطين من بني عثمان ودفاعاً عنهم، ويرفعون برقيات الولاء، وطلبات التطوّع والولاء، كلٌ لجهةٍ وحاكم من حكام المماليك أو العثمانيين، يؤيّدونهم ويدافعون عنهم، ويبايعونهم، ويرفعون إلى السلاطين الكبار من بني عثمان برقيات، وطلبات الولاء لمن يوالون، وهكذا سار تاريخ العراق بولاءات تحمي الفساد، وتغيّب الدولة، وتصادر حقّ المواطن .
وقد رسخ الفساد بنحوٍ أشدّ في حكم صدام حسين؛ إذ استطاع أنْ يقتل، ويشنّ الحروب، ويهدر الثروات، ويسنّ القوانين الجائرة، من دون حساب، والأنكى من ذلك؛ أنْ تحوّلت كلّ مؤسسات الدولة الأمنية بدلاً من حماية الدولة إلى حماية الفرد الدكتاتور وقراراته وفساده، وقمع كلّ مَنْ يعترض، أو ينتقد، أو يطالب بتفعيل الرقابة , إذ أنّ انتشار الدماء والتهجير، والرذيلة، والخمور، والفجور، والملاهي، والرقص، وبيوت الدعارة، كانت أبرز سمات عهد صدام حسين وولده عدي ورجالاته الأمنيين والسياسيين؛ كيف لا، وأنّ رأس الهرم الإداري في العراق ـ صدام حسين ـ كان يزني ويفجر، ويصادر النساء من أزواجهن علانية، وخير دليلٍ على ذلك؛ قصة سميرة الشهبندر.
أمّا عدي صدام حسين فقد ضجّ الشارع العراقي ممّا كان يفعل من خطف للنساء الشابّات من الشوارع، والاعتداء عليهنَّ، هذا فضلاً عن حفلات الفساد في قصوره التي يطول خبرها.
وبطبيعة الحال انعكس هذا الفساد بكلّ أبعاده على العمل السياسي والحكومي، فأدّى إلى الفوضى والاضطراب السياسي، وصار سبباً للانقلابات، ومسوّغاً للاغتيالات، وأدّى في ما يؤديه إلى تراكم ثقافةِ عدمِ الثقة بين أفراد الشعب العراقي، وعموم الإدارات العليا، وحكّام العراق، فتلحظ أدبيات العراق وإصداراته، وشعره، ونثره، يتحدّث عن عدم ثقة المواطن العراقي بالمسؤولين، واتهامه إيّاهم بالفساد، والرشوة، والسلب والنهب، فأبرز ما قيل في العصر الملكي من شعرٍ أبياتٌ بقيت تردّد على ألسنة العراقيين مثلاً:
يا بائع الفجل بالمليم واحدةً
فكم للعيال وكم للمجلس البلدي.
نعتقد أنّ الفساد في العراق بكامل أبعاده المالية والإدارية والسياسية وغيرها بعد مرحلة 2003 م له آثارٌ خطرة ومزايا معقدة، تركّزت في العقلية والثقافة السياسية لدى الشيعة والسنّة والكرد على حدٍّ سواء، بقصد وبدون قصد، هي ثقافة سياسية تراكمية تضاف إلى الثقافات التي تولّدت عبر التاريخ. ورسخ هذا السلوك منذ عام 2003،ولم يتم تجاوزه لذات الاسباب.
وإنمّا الأمم الأخلاق ما بقيت فإنْ هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا.