جاري تحميل ... مدونة المرجل

الاخبار

إعلان في أعلي التدوينة

الصفحة الرئيسية غير مصنف على وقع أحداث كربلاءِ ، المبتًذًلون

على وقع أحداث كربلاءِ ، المبتًذًلون

حجم الخط

 

الدكتور علي طاهر الحمود |

قراءة في هوامش ابتذال المجتمع والنخبة وتشرين!

ما حدث في كربلاء في الأيام الأخيرة، وما شهدته ساحة الاحتجاجات بعد الأول من تشرين الأول 2019 الى اللحظة الراهنة، وطبيعة الخطاب النخبوي المثقف طيلة السنوات الماضية يعيد التذكير بأساسيات التفكير السوسيولوجي الذي انتجه أول مرة (كارل ماركس) حينما سعى الى فهم طبيعة الصراع في المجتمع. ويقّسم ماركس المجتمع الى طبقتين رأسمالية برجوازية، وبروليتارية علمالية، وان طبيعة العلاقة بينهما تنتج نمطا مستمرا من الصراع المفضي الى شكل من اشكال التوازن في أحيان كثيرة، دونما يعني ذلك استقرارا تاما.
ّ
وفي ثنايا التنظير الماركسي يشير هذا الأخير الى فئة (وليس طبقة) قلما حظيت بما يكفي من اهتمام من قبل الباحثين.
يسمي ماركس إياها بـ(Lumpen)، وتترجم في العربية أحيانا بالبروليتاريا الرثة.
الا ان لصقها بالبروليتاريا أضاع جزء مهما من خصوصيتها المميزة التي تساعد على فهم الكثير عن هذه الفئة في التحليل السياسي والاجتماعي.
وسنعمد على استعمال هذا المفهوم بمصطلح (المبتذلون) في هذه الورقة.

1- من هم “المبتذلون”؟!
لا يفرق عند المبتذل من يؤيد او يرفض! يسعى الى التعامل مع من يدفع له! لا يفرق عنده ان يبيع كتابا او شرفا! لديه سعر معين، وعلى استعداد ان يقدم في مقابله سيفه أو عربدته. المبتذل كاسر للحرمات. منطقه هش وضعيف. لا صلة له بالفكر والاستدلال. ينتمي الى فئة مبعدة وبعيدة عن مركز المدينة وتحولاتها. لا يعمل في عمل ثابت او مفيد. يعمل يوما في البيع والشراء، ويوما في البناء، واياما عاطل عن العمل، وأخرى يسرق فيها، او يتاجر بالمخدرات. يميل للتسكع، والجريمة. فئته من سقط المتاع والرذيلة ومحترفي الخديعة والجريمة.
تظهر هذه الفئة في المجتمعات الحديثة الصناعية تحديدا، ويساعد في نشئها التنمية غير المتوازنة وغير المستدامة للدول.
المبتذلون فئة من الناس ابتعدوا عن طبقتهم، ولا يحسبون أنفسهم منها أو فيها أو اليها. المبتذلون طيف بلا جذور من الناس، غالبيتهم من البروليتاريا لكن يمكن ان يكونوا من أصل برجوازي أيضا. يمكن حتى ان يكونوا من المتعلمين، الا انهم قطعوا جذورهم من طبقتهم وأصبحوا متمردين عنها وعليها. وبذلك تتوسع دائرة المبتذلين لتشمل متمرسي الفواحش الى جانب المتعلمين. لكن الوجه المشترك لهم هو ميلهم للشغب والغوغاء والتخريب بالفعل وباللسان. افعالهم لا تنبع من فكر اصيل او أيديولوجيا بعينها. سلوكهم غير متعارف عليه وغير منطقي، وغالبا ما يعرّفون عن أنفسهم من خلال التخريب واثارة الغوغاء والمشكلات في المجتمع.
تظهر هذه الفئة في مجتمع تراكمت فيه قصص اليأس والاذلال. تلك المجتمعات التي لم يصمد بها النظام الاجتماعي المتشكّل من المعايير القيمية والعادات والتقاليد والقوانين الضابطة. وبما ان ولادة هذه الفئة الاجتماعية هي في ظل هذا النوع من المجتمعات في طور التغيير والانكسار، فإن السمات النفسية والاجتماعية للمبتذلين تميل للعدوان والعنف والنفعية الشديدة. فأفضل بيئة لظهورهم وحضورهم الجمعي والاجتماعي هو في النزاعات الاجتماعية والسياسية.
في النزاعات السياسية يسعى العقلاء من النخبة ارشاد التغيير السياسي او الإصلاحات المطلوبة ضمن نظام اجتماعي وقيمي معين (مثلا في قالب الأحزاب والتجمعات المدنية والشعارات والبرامج المتوافقة مع النظام والشرعية القانونية والاخلاقية). الا ان المبتذلين يظهرون ضمن القوالب نفسها او ضمن قوالب فردية او تجمعات شديدة الصغر (عصابات)، ليمارسوا البذاءة والفحش والتخريب والعنف
والارعاب والإرهاب، لكن ضمن مظلة العمل الإصلاحي والعقلاني المعلن.
المبتذلون أداة مفضلة أحيانا بيد الأحزاب والقوى السياسية او حتى الحكومة والزعامات من ذوي الميول الاستبدادية والتوتاليتارية الشمولية. مفاهيم سياسية مثل الـ(شعبوية)، والـ(بونابارتيسم) هي بالأساس تعتمد على زواج سفاح بين فئات من الرأسماليين او ذوي السلطة الشرعية او شبه الشرعية
مع الفئات المبتذلة.
ولا يمانع المبتذل أن يتحالف مع أية طبقة او فئة، فقد تجده يعمل مع كلا طرفي النزاع في آن واحد! فما يهمه المنفعة الآنية السريعة ليس الا. وفي أحيان كثيرة لا يحصل على منفعة ما سوى شعوره الغريزي بالإثارة والنصر الزائف.
هتك الحرمات، والبذاءة اللفظية، والتنابز بالألقاب، من أكثر السمات البارزة لهذه الفئة، اذ هم يتلذذون بتصدير أديباتهم هذه في المجتمع. ليس لديهم خطوط حمر، او كبير يمكن الحوار معه. يهربون من النقد، ويواجهون المثقفين بسرديات تنتمي لأديباتهم البذيئة لفظا ومنطقا. يتحدون القيم، لكنهم عاجزون عن التأثير فيه لصغرهم ومنبوذيتهم عند اغلبية المجتمع. وعند النزاعات السياسية والاجتماعية يتحدون النظام الاجتماعي، وغالبا ما ينجحون في هذا الامر!

2- النخبة المبتذلة.. من هم؟!
المبتذلون من النخبة يصدّرون ذوقا خاصا للناس. قد لا تكون رواية ما يصدّرونها او نصا شعريا ما او حتى خطابا سياسيا معينا قائما على فكرة اصيلة او منطلق أيديولوجي او علمي رصين. مناهضة الأحزاب (كل الاحزاب)، ورفض التعامل مع الدول (جارة كانت او غيرها)، من أمثال رثاثة النخبة وابتذالها. ابتذال الذوق والسقوط في وحل الشعبويات وتسويق السلع الثقافية عديمة النوعية والقيمة هي نماذج من أفعال هؤلاء. قوالبهم تنويرية، طريقتهم اقصائية، سلوكهم فردي متعالي نرجسي، لا ينتظمون بعمل جمعي، ينشقون عن الاخرين رغم حرصهم الظاهر على التودد لأقرانهم. ينشقون أحيانا حتى
عن أنفسهم ضمن فلتات اللسان والافعال، مُذكّرين النابهين الى شيزوفرينيا نفسية واجتماعية يعانون
منها. يُعرّفون أنفسهم على أنهم “نخبة مثقفة”. يُقيمون النتاجات الفكرية للآخرين بالانتقاد لا النقد، يميلون لتصنيف الباحثين والنخبة ووصفهم أشخاصا وانتماءات، ُمسقّطين هذا التصنيف على تقييمهم للنتاجات الفكرية. قلما يمدحون نظرائهم من دون مديح مقابل، في صفقة غير معلنة لكنها معتادة في
هذا الوسط. يلوكون المصطلحات الغامضة، وأسماء اجنبية. عينهم على المنتج الثقافي لخارج الحدود، مزدرين مبتعدين لما ينتج داخل الحدود.
منهم الأستاذ والشاعر والباحث والمترجم والفنان والناشط. يظهرون في مقاه وأماكن محددة، يضيعون في غيرها! مثقفو صالونات. يبحثون عن العناوين والالقاب والمريدين أيضا. سلوكهم معدي للمجتمع، لأن ما يفعلونه يصدّرونه على انها قيم بديلة. ذوي متابعة من قبل الناس في مواقع التواصل الاجتماعي، على عكس المبتذلين اجتماعيا الذين يعيشون في الضواحي والأطراف. يمنطقون الابتذال رغم رثاثته. يشيعون اليأس والقنوط. يثبطون عزائم الناشطين من النخبة، مشوشين على فعلهم الإصلاحي وإيجابيتهم
التغييرية. لا بديل واضح لديهم للانحطاط الذي يُرثُونه، رغم انهم مساهمين فيه!

3- مبتذلو احتجاجات تشرين
يمكن رصد تحركات الفئة المبتذلة التي انطلقت من عقالها المحبوس في ضواحي المدن وهوامشها، ضمن المحتجين من الشباب قليلي الأعمار والاكثر رغبة في اثارة قوات الامن في مقتربات شارعي الرشيد وابو نؤاس وداخل المطعم التركي وبالقرب من جسري الجمهورية والسنك وصولا الى جسر الاحرار بالإضافة الى ضفاف نهر دجلة. وتتراوح اعمار هؤلاء الشباب بين 15 و25 عاما، منتظمين ضمن جماعات صغيرة متضامنة ذات مهام وادوار وواجبات موزعة بدقة، فمنهم من يتصدى لقنابل الغاز، ومنهم من يستفز رجال الامن بإلقاء الحجر، ومنهم من يقوم بالاستفزاز بمكبرات الصوت، فيما لم يفت الجميع ارتكاب ما يحلو له من تحدي للمحرّمات.
ويبدو ان اختلاف اهداف المحتجين أنتج اختلافا في الانتماء الى الجماعات المتواجدة في ساحات الاحتجاج، وهو بدوره خلق اختلافا في الادوار المناطة لكل فرد متواجد في الساحة. ويتبلور ذلك ضمن التوزيع المكاني، والزماني للمحتجين، فالداعين للإصلاح هم في وسط الساحة، والداعين لإسقاط النظام في خطوط التماس والمواجهة.

4- تحرك المبتذلين الى كربلاء.. لماذا؟
في لحظة ما بعد استقالة عبد المهدي من منصبه، خلت ساحة الاحتجاجات من روادها المطلبيين. فقد أمّلوا بإصلاح ما قادم. وانسحاب هؤلاء الآلاف كان معناه أيضا سحب القوة القيمية والشرعية التي حملوها الى الساحات. ولم تسد الحكومة الفراغ في ساحات الاحتجاج، تاركة إياها للـمبتذلين، الذين تسيّدوها بالأفعال والحضور، فيما وجد هؤلاء غطاء وشرعية من قبل قوى سياسية، ومن ثم الحكومة الجديدة نفسها. فبعدما كان مكان المبتذلين في الهامش، تصدّروا لمركز المدينة. وبعدما كانوا بلا غطاء ومقبولية، أصبحوا أداة سياسية قبل عام من الانتخابات. وبما ان المبتذلين لا ينتظمون بقانون او قيم،
وسريرتهم كسر النظام والحرمات، فلم يجدوا غضاضة في التحرك هنا او هناك، ومنها كربلاء!

5- هل من خطر قادم؟
المبتذلون مهمشون. لا قيم لهم كي يطرحوا بديلا قيميا. فهم من الناحية المبدئية لا يشكلون خطرا داهما على القيم بوصفها مفاهيم قائمة وراسخة. لكن المبتذلين قادرون على كسر النظام العام، شريطة خلخلته من قبل غيرهم. فالمجتمعات في طور التغيير، او الصراعات السياسية، او ضعف إنفاذ القانون لأي سبب كان، هو فضاء مناسب لظهور المبتذلين ونشاطهم، فيعمدون حينها الى زيادة زخم الشغب والتخريب والفلتان.
إن المبتذلين مكانهم الهامش دوما، والسجن في كثير من الأحيان. وسيعود إضفاء الشرعية السياسية عليهم او الحماية الحكومية لهم بالضرر والخطر على النظام كله. وما أدّل على ذلك من تحركهم الى كربلاء، وربما يكون القادم أخطر، شغبا او اغتيالا او تعدّيا واستفزازا.

فهل من مستمع؟

تعديل المشاركة
Reactions:
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال