محمد حسن زيد ||
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد الكارثة التي حلت بالمسلمين في غزوة أُحُدٍ ظن معسكر الشِرك ان ساعة استئصال الإسلام قد حانت، فحشدوا وجهزوا مدة عامين ثم تحرك عشرة آلاف مقاتل من قبائل شبه الجزيرة العربية نحو المدينة المنورة،
وهذا العدد ضخم جدا بمقاييس تلك الفترة، فشاع الخبر بين المسلمين كالصاعقة فأثار القلق وأهاج الفزع فكيف سنواجه هذا العدد الهائل؟ شاور النبيُّ أصحابَه فقرروا التحصن بالمدينة عبر حفر خندق في الجهة الشمالية المفتوحة وذلك لأن بقية الجهات كانت محاطة بالنخيل والبنيان..
عسكر النبي بالمسلمين عند سفح جبل سَلْع لكن ولأن الخندق المراد حفره طويل قسم النبي المساحة بين المسلمين فجعل حفر كل 18 مترا على عشرة رجال، لكن الظروف كانت صعبة جدا فلم يواجه المسلمون الخوف فقط بل واجهوا تحديات أخرى فالوقت كان شتاء والبرد كان قارسا والمؤن كانت شحيحة بعد عام جدب،
لذلك فقد شارك النبي بنفسه في الحفر وكان يرتجز أبيات شعر تحفيزي ليرفع معنويات المسلمين حتى أنجز المسلمون حفر الخندق في 6 أيام حيث كان طوله حوالي 2200 متر وعرضه 4 أمتار وعمقه 4 أمتار…
وصل المشركون من جهتين بقيادة أبي سفيان بن حرب وعيينة بن حصن فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنقل النساء والشيوخ إلى الآطام (حصون دائرية قديمة) ووزع المسلمين في مجموعات خلف الخندق حيث كان عددهم 3000 آلاف رجل…
فوجئ المشركون بالخندق فلم يعهدوا هذه التكتيكات العسكرية الفارسية خلال حروبهم فلجأوا إلى تفعيل المنافقين واليهود داخل المدينة المنورة فتحرك حيي بن أخطب إلى بني قريظة الذين كانوا يتحصنون جنوب المدينة خلف ظهور المسلمين لينقضوا العهد مع رسول الله ويشاركوا في غزو المسلمين ويطعنوهم في الظهر فتمنعوا في البداية ليتأكدوا من جدية المشركين.
وعندما تحرك جندُ المشركين على امتداد الخندق يبحثون عن ثغرة للدخول واجههم المسلمون على امتداده وحاول بعض فرسان المشركين اقتحام الخندق فنضحهم المسلمون بالنبل واستمر التراشق بالنبل بين الجيشين والخندق يحول بينهما طيلة النهار الأول حتى غربت الشمس فعاد المشركون إلى معسكرهم، فنظم النبي دوريات طوال الليل لرصد أي محاولات اقتحام أو تسلل،
وبعدما بلغ رسولَ الله خبرُ حيي ابن أخطب مع زعماء بني قريظة أرسل الزبير بن العوام ليستطلع الأمر فلمس استعداداتهم للحرب فعاد ليُخبر رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم فأرسل إليهم سعدَ بن عبادة ليذكرهم بالعهد فأساؤوا استقباله وجهروا بنقض العهد في هذا الظرف الخطير لعنهم الله..
فلما أيقن رسول الله من خيانتهم كبّر وقال “أبشروا يا معشر المسلمين بنصر الله وعونه” وكأنما جاءت هذه الظروف القاسية لتكشف وجههم الحقيقي،
وظهرت بوادر غدر اليهود حيث أخذ بعضهم يطوف بالحصون التي وضع فيها النبي النساء والأطفال وأرجف المرجفون بأن بني قريظة سيهجمون على المسلمين من خلفهم وأن الأحزاب سيقتحمون الخندق فاشتد البلاء على المسلمين وبلغ الخوف ذروته يقول الحق تعالى “إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا” لقد وصل الحد بأن جهر بعض المسلمين بين العسكر بالنفاق وأخذوا يشككون في صدق وعد الله ورسوله بالنصر وفتح قصور صنعاء وكسرى وقيصر
قال تعالى “وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا، وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ۚ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا، وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ ۚ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا، قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا، قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ۚ وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ۖ وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ۖ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ۚ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا، يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا ۖ وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ ۖ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا”
إزاء هذا الوضع الخطير انتخب النبي مجموعات محدودة من المسلمين وأمرهم بالانتشار في أحياء المدينة للتكبير بصوت عالٍ وأمر النساء إن شعرن بالخطر أن يرفعن السيوف من فوق الحصون ليراها المسلمون ويحضروا لنجدتهن..
وشدد المشركون هجومهم على الخندق وتحرش اليهود بحصون المسلمين فأسرع إليهم بعض المسلمين وقتلوهم، وهاجم اليهودُ حصناً فيه بعض زوجات رسول الله وعمته صفية وحاول أحدهم تسلقه فنزلت إليه صفية بنت عبدالمطلب بعمود فقتلته فذعر أصحابه وانسحبوا وهذا ديدنهم..
حاول النبي تشتيت الأحزاب فأرسل زعيمي الأوس والخزرج لمفاوضة غطفان بالانسحاب فقالوا “والله لا نعطيكم إلا السيف” فصبر المسلمون وتجلدوا وتواصلت المناوشات عبر الخندق وأصيب سعد بن معاذ إصابة بالغة بسهم في أكحله واجتاز بعض فرسان المشركين الخندق وكان فيهم عمرو بن ود وعكرمة ابن أبي جهل وضرار بن الخطاب ونوفل بن عبدالله فتصدى لهم علي بن أبي طالب مع نفر من المسلمين فقتل عمرو بن ود وقتل الزبير نوفل بن عبدالله وفر الباقون،
فارتفعت معنويات المسلمين وانكسرت معنويات المشركين قال تعالى “وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا، مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا، لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا”
وفي اليوم السابع والعشرين للحصار استجاب الله لدعاء رسوله والمسلمين فأرسل ريحا شديدة اقتلعت خيام المشركين وملأت نفوسهم يأسا وقنوطا فجمعت قريشُ متاعها وعادت خائبة وتبعتها غطفان وبقية الأعراب، قال تعالى: “وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ۚ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا، وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا”
أذن النبي بعد ذلك للمسلمين أن يعودوا إلى بيوتهم لكن جاءه جبريل بأن لا يضع السلاح حتى يستأصل شأفة بني قريظة الخائنين أخزاهم الله..
لقد كانت هذه التجربة الصعبة امتحانا استثنائيا في تاريخ الإسلام فرزت الناس وكشفت القلوب ومنحت درسا لقادم الأجيال، فمن كان يؤمن بالله ويعرف عظمته ويعلم هيمنته التامة على كل التفاصيل لم يتسرب إليه الشك في صدق وعده رغم البلاء العسير والمعطيات غير المبشرة والظروف الصعبة، لكن هذا هو الله… هذا هو الله… هذا هو الله…
نسأله تعالى أن يربط على قلوبنا بالصبر والصمود والثبات ويُعزّنا بِعزّه الذي لا يُضام ويردَّ كيدَ المشركين واليهود والمنافقين كما رده يوم الأحزاب إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير..
وسلام على المرسلين
والحمد لله رب العالمين