د. محسن العكيلي ||
منذ عام 2003، شهد العراق ظاهرة غير مسبوقة في العمل السياسي، تجسدت في تشكيل عدد هائل من الأحزاب السياسية التي أفرغت العمل الحزبي من مضمونه الحقيقي. هذه الظاهرة، التي يمكن وصفها بـ”تفريخ الأحزاب القزمية”، جعلت المشهد السياسي يبدو وكأنه مسرح عبثي، حيث ينتشر في كل شارع رئيسي تقريبًا مقر لحزب جديد يحمل اسمًا رنانًا وشعارًا لافتًا، لكن الحقيقة المرة تكمن في أن هذه الأحزاب لا تملك قاعدة جماهيرية تُذكر، ولا تمثل أكثر من تجمعات شخصية ضيقة.
– الأحزاب القزمية: تجمعات عائلية وشبكات مصالح
تحولت بعض الأحزاب الصغيرة في العراق إلى ما يشبه الجمعيات العائلية أو شبكات المصالح، حيث يتم تأسيس الحزب وإدارته من قبل رئيسه وعدد قليل من أصدقائه وأقاربه. لا يحمل هؤلاء أي رؤية سياسية واضحة أو مشروع وطني حقيقي. جمهور هذه الأحزاب غالبًا لا يتعدى “عشرة نفرات”، ومع ذلك تُفتح لها مكاتب ومقرات، تُصرف عليها الأموال بسخاء.
هذه الكيانات لا تسعى لتمثيل الشعب أو معالجة مشاكله، بل تعمل كواجهات شخصية لتحقيق مكاسب فردية، ما يجعل العمل السياسي مجرد وسيلة للنفوذ والثراء.
– عباءة المدنية: موضة تخفي الفساد
اللافت أن أغلب هذه الأحزاب ترتدي عباءة المدنية، التي أصبحت “موضة المرحلة” في العراق، مستفيدة من الدعم الدولي والمحلي. تحت شعارات المدنية، تحصل هذه الأحزاب على تمويل سخي من منظمات دولية أو جهات محلية في بغداد وكردستان. لكنها في الواقع لا تمثل المدنية كفكرة أو مشروع، بل تستغل هذه اللافتة لتغطية مشاريع فساد سياسي ومالي.
– التمويل المشبوه: رجال الأعمال والعقود الفاسدة
مصدر التمويل لهذه الأحزاب الصغيرة هو الأكثر إثارة للجدل. فرغم ادعاءاتها بالاستقلالية والنزاهة، تُكشف الحقائق عن ارتباطها برجال أعمال ومستثمرين لهم علاقات مباشرة بأصحاب العقود والصفقات المشبوهة. هذه العلاقة تجعل من بعض الأحزاب أدوات لتحقيق أجندات مالية أو سياسية بعيدة كل البعد عن أي مشروع وطني.
التمويل المشبوه لا يقتصر على دعم هذه الأحزاب للبقاء، بل يجعلها تابعة لداعميها، مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات سياسية لا تخدم إلا مصالح مموليها.
– التأثير السلبي على الديمقراطية
وجود هذا الكم الهائل من الأحزاب القزمية يعكس أزمة حقيقية في العملية الديمقراطية في العراق. بدلاً من أن تكون الديمقراطية وسيلة لبناء مؤسسات سياسية قوية وقادرة على التغيير، أصبحت مظلة لتشتيت الجهود السياسية وتمزيق الساحة إلى كتل صغيرة متصارعة.
– أبرز التأثيرات السلبية:
1. فقدان ثقة المواطن: المواطن العراقي بات يرى في هذه الأحزاب كائنات استهلاكية لا تقدم حلولًا حقيقية لمشاكله.
2. تشتيت الجهود الوطنية: العمل السياسي أصبح مليئًا بالتنافس الشخصي بدلًا من المشاريع الوطنية الجامعة.
3. تعقيد المشهد الديمقراطي: كثرة الأحزاب جعلت من الصعب تحقيق توافق سياسي أو قيادة قوية.
– الحل: إصلاح قانوني ووعي شعبي
لمعالجة هذه الظاهرة، لا بد من اتخاذ خطوات جادة لإصلاح المشهد السياسي.
إصلاحات قانونية:
• وضع شروط صارمة لتأسيس الأحزاب، تشمل وجود قاعدة جماهيرية حقيقية، عدد محدد من الأعضاء المسجلين، وبرنامج سياسي واضح ومعلن.
• فرض رقابة صارمة على مصادر تمويل الأحزاب لضمان الشفافية والاستقلالية.
• تقليل الامتيازات الممنوحة للأحزاب الصغيرة، ما سيحد من الإقبال على تأسيسها بدوافع مادية.
توعية المواطنين:
• يجب أن يدرك المواطن العراقي دوره في محاسبة الأحزاب القزمية، من خلال الامتناع عن دعمها في الانتخابات ومطالبتها بالشفافية.
• تعزيز الثقافة السياسية عبر وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية لتسليط الضوء على أهمية اختيار أحزاب ذات مشاريع وطنية حقيقية.
– خاتمة: الديمقراطية بين البناء والعبث
ما لم تتخذ خطوات حقيقية لمعالجة فوضى تفريخ الأحزاب القزمية، فإن العملية الديمقراطية في العراق ستظل تدور في حلقة مفرغة من العبث والفساد. الإصلاح يبدأ من السياسيين، لكنه لا يكتمل إلا بمشاركة شعبية واعية ترفض الاستمرار في دعم هذه الكيانات الهشة.
الديمقراطية العراقية بحاجة إلى إرادة صادقة على المستويين السياسي والشعبي لتتحول من أداة للعبث إلى وسيلة لبناء وطن حقيقي، حيث تكون الأحزاب انعكاسًا لإرادة الشعب، لا مجرد مظلة للمصالح الضيقة.