عمار محمد طيب العراقي ||
ما بين أرتحال النبي الأكرم في العام الحادي عشر الهجري، وشروع تشكيل دولة بني امية في عام 41 هجري؛ وهو تاريخ تولية معاوية بن ابي سفيان، أو في تولية الأموي عثمان بن عفان في العام الهجري 23 هجري، زمن قصير؛ لكنه كان زمنا مزدحما بالأحداث الدسمة، والمؤامرات الخبيثة، التي لا تنسجم قطعا مع روح الإسلام ورسالته السماوية، بل أن بعضهم يصفون تلك الأيام؛ بأنها ايام مظلمة داحسة بالخذلان والتآمر وغياب روح الإسلام، إلا شذرات منها هي آثار الوجود المبارك لأهل البيت عليهم السلام.
قبلها كنا نسمع صوت رسول الله، منادياً بقول سبحانه: (إنَّ هذه اُمَّتُكُمْ اُمَّه واحِدَةً وانَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)..وهو الداعي بملاك النبوة الطاهرة، إلى توحيد الكلمة، بأمره جل في علاه (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعَاً وَلا تَفَرَّقُوا)، ويقول بلا توقف: (إنَّمَا الْمُؤمِنُونَ إخْوَة…) رافعا بقوة وثبات؛ محذرا بلا تردد؛ المجتمع الإسلامي من التفرّق والتشرذم، الى يوم وصف فيه المتحزبون بأنهم بأنهم (قوم دعوى منتنة).
كان الرسول يخاطب دعاة التحزب الأموي بحزم، بقوله: (الله الله أبدعوى الجاهليّة وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله بالإسلام، وأكرمكم به، وقطع به أمر الجاهليّة واستنقذكم من الكفر، وألّف به بين قلوبكم).
لكن صوت الرسول “بُح” كثيرا، مثلما بعد قرون طويلة “بُح” صوت السيد السيستاني معنا، فالمسلمون لا يرون أنفسهم إلا فريقين بعد مفادرته دنيانا..فريقين يجمعهما الاتّفاق في سائر الاُصول، ويفرّقهما الخلاف في مسألة الخلافة والولاية..ومنذ ذلك التاريخ والمسلمين متفرقون ابدا، ولن يأتي يوم يجتمعون فيه، وكلما تقدمنا في الوجود، اشتد الخلاف بيننا، ويوميا نكتشف أسبابا للإختلاف، تعزز قناعة كل منا، بما يؤمن به من خلاف..!
منذ ذلك التاريخ ونحن فرقة تبنّت مبدأ التنصيص على الشخص المعيّن، وتقول والحجة معها، أن الرسول نصّ على خلافة علي وولايته، يوم الغدير بُعيد حجّة الوداع، (من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه..الخ) وقد تجاوز هذا الحديث الكبير حدّ التواتر، وكان يقوله بلا إنقطاع، أكابر بني هاشم كعبّاس بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب وغيرهما، ولفيف من الأصحاب..سلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري، والمقداد، وأبي التيهان، وأبي أيّوب الأنصاري وغيرهم من المهاجرين والأنصار، الذين شايعوا عليّاً، ونفّذوا ما أوصى به النبي في حقّ وصيّه، وكان هؤلاء نواة “الشيعة” الإوَل.
قبالة هؤلاء الضعفاء الأقوياء، ظهرت فينا فكرة الشورى، قالوا: أن رسول الله لم يوص بعلي خليفة، بل أوصى به كأبن عم محترم، وانّ لهذه الجماعة “حق” اختيار القائد، وذهبوا في مسعاهم حد التنفيذ، فأختاروا أبي بكر بن أبي قحافة، وأجروا بيعتهم له في سقيفة بني ساعدة، وكان في رأسهم عدّة من مهاجرين، كعمر بن الخطاب وأبي عبيدة الجراح، وبيعة الأوسيين من الأنصار..
لقد نسي هؤلاء أو تناسوا، النصّ النبوي يوم الغدير فقدَّموا “الإجتهاد على النصّ”، ورجّحوا “المصلحة المزعومة على التعيين الإلهي”، أصحاب هذه الفكرة من بين المهاجرين والأنصار، كانوا يستدلّون على مبدئهم في سقيفة بني ساعدة، بأدلة ومقاييس كانت سائدة في الجاهلية، لا صلة لها بالكتاب والسنّة.
الأنصار قالوا أنّهم أولى من غيرهم بالخلافة، لأنّهم “آووا” الرسول ونصروه في حروبه، في وقت أخرجه “قومه” فيه من موطنه وخذلوه، وقال أحدهم: يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم فأنتم أحقّ بهذا الأمر منهم، فانّه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين..!
قبالتهم كان المهاجر يقول: إنّ المهاجرين أقرباء النبي وعترته، ودعمه عمر؛ فقال ردّاً لمنطق الأنصار: والله لا ترضى العرب أن تؤمّركم ونبيّها من غيركم؛ ولا تمنع العرب أن تولّي أمرها من كانت النبوّة منهم، من ينازعنا سلطان محمّد ونحن أولياؤه وعشيرته؟
كلا الفريقين المتناحرين كانوا بعيدين عن الحقيقة، أحدهم يستند بأنه “أوى” النبي، والآخر يستند إلى قرابته منه، مع أنّه كان من اللازم عليهم الفحص عن قائد لائق، عارف بالكتاب والسنّة، مدير ومدبّر؛ يمتلك كافّة المؤهّلات اللازمة في القيادة..
القائد المتروك كان بينهم منهمكا بإعداد جنازة الراحل الى دار البقاء، تلك كانت ثلاثة أيام حبلى بالعنجهية والسيف والمؤامرة، ولولا القيادة الحكيمة لعلي، ومساهمته في أحتواء الاُمور، لذهبنا الى معركة تطحن الإسلام والرجال معا..خصوصاً انّ المنافقين كانوا يترصّدون الفرصة، ويؤلّبون احدى الطائفتين على الاُخرى؛ ليصطادوا في الماء العكر..
لقد لعب ملّاك التاريخ وصانعه لعبة الشرفاء الأنقياء، وحفظ الإسلام من مهلكة كبرى، كانت ستعصف بها الى صفرين، لكن القيادة الحكيمة لصاحب النصّ النبوي، علي أفشل تلك الخطط الشيطانيّة، خسر الخلافة الى حين وبقي الإسلام الى الأبد..!
في تلك الظروف العصيبة، مفسدة أعظم من فوت الولاية، فتنازل عن الأمر فسدل دونه ثوباً، وطوى عنه كشحاً، يصف علي الحال ويقول: ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أهل بيته، ولا انّهم منحوه عنّي من بعده، فما راعني إلّا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي؛ حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أرى فيه ثلماً أو هدماً؛ تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم؛ التي إنّما هي متاع أيّام قلائل، يزول منهما ما كان كما يزول؛ السراب أو كما ينقشع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق..
منذ ذلك اليوم كنا شيعة وسنة..سنة وشيعة..والى الأبد..!