جليل هاشم البكاء ||
في مساحات الفكر المتشابكة، حيث يتقاطع اليقين مع الحيرة، تبرز قضية عصمة الأولياء كمفترق طرق بين النور والظلمات، بين من يرى في العصمة نورًا يهتدي به، ومن يراها عبئًا يخشى ثقله.
فالمسألة ليست مجرد فكرة عقائدية تتنازعها المذاهب، بل هي مرآة تعكس مكنونات النفس البشرية بين الإيمان والخوف، وبين التسليم والإنكار.
العصمة، ذلك المقام السامي الذي يعني التنزّه عن الخطأ والزلل، ليست حكرًا على الأنبياء في بعض المذاهب، بل تمتد لتشمل الأولياء عند آخرين. غير أن الجدال ليس في وجودها بقدر ما هو في ما تعنيه لمن يؤمن بها أو ينكرها.
ومن هنا تنبثق المفارقة المذهلة: من ينكر العصمة بلسانه، قد يكون أكثر إيمانًا بها في أعماقه، لكن الخوف من تبعاتها يجعله يرفضها. أما من يؤمن بها إيمانًا راسخًا، فإنه لا يرى فيها قيدًا، بل حُجّة يستند إليها ويفرح بها.
العصمة كحُجّة للمؤمنين بها
من يعتقد بالعصمة، يراها شعلة نور في طريق معتم، حُجّة له لا عليه. فهي دليل على أن الإنسان يمكن أن يبلغ الكمال الإنساني بإرادة الله، وأن هناك من يظل معصومًا عن السقوط، مهما كان الطريق وعرًا.
هذه العصمة تمنح المؤمن بها يقينًا داخليًا، وطمأنينة بأن هناك من لا يخضع لقوانين النقص البشري، فيظل ثابتًا كالصخرة وسط أمواج الفتن. إنهم لا يخشون العصمة، بل يحتفون بها، لأنها تثبت لهم أن النقاء ممكن، وأن لله في أرضه أولياء لا يخطئون، يشهدون على أن السمو الروحي ليس ضربًا من الخيال، بل حقيقة قائمة.
العصمة هنا حُجّة لهم، لأنها تعني وجود مرجعية لا تخطئ، وجود منارة لا تنطفئ، ووجود قدوة لا تخذل. إنهم يرون في العصمة حُجّة لهم أمام أنفسهم والعالم، إذ يمكنهم دائمًا أن يقولوا: “هناك من بلغ الكمال، فلماذا لا نسعى نحن؟”.
العصمة تمنحهم هدفًا، وترفع سقف تطلعاتهم الروحية، لأنها تثبت أن الكمال ليس مستحيلًا.
العصمة كحُجّة على المنكرين لها
أما من ينكر العصمة، فليس بالضرورة لأنه لا يؤمن بإمكانية وجودها، بل لأنه يدرك أن الاعتراف بها يضعه أمام مسؤولية ثقيلة.
كيف يمكن لإنسان أن يعترف بوجود من لا يخطئ، ثم يبرر أخطاءه؟
وكيف له أن يعيش في منطقة الراحة وهو يعلم أن هناك من كُتب له ألا يزلّ؟
العصمة هنا تصبح حُجّة عليه، لأنه لا يستطيع أن يواجه فكرة وجود من يتجاوز حدود بشريته، بينما هو يبرر لنفسه كل ضعف وسقوط.
المنكر للعصمة، في أعماقه، قد لا ينكرها فعليًا، لكنه يخشاها. يخشى أن تُصبح تلك العصمة ميزانًا توزن به أفعاله، ومِرآة يرى فيها قصوره.
ومن هنا ينبع إنكاره، لا من رفض جوهري، بل من رهبة داخلية من مواجهة الكمال. العصمة هنا ليست مجرد فكرة لاهوتية، بل هي كابوس لمن يريد أن يهرب من المثالية. إنها حُجّة عليه، لأنها تُذكّره دومًا بأن هناك معيارًا أعلى مما يرتضيه لنفسه.
منطقة الحيرة بين النور والظلمات
وبين هؤلاء وهؤلاء، يقف الحائرون، في منطقة رمادية بين النور والظلمات. إنهم الذين تتجاذبهم قوى الإيمان والخوف، يقفون على الحافة، غير قادرين على الإنكار التام، ولا على التسليم المطلق.
الحائرون يرون في العصمة بريقًا يغريهم، لكنه في الوقت ذاته يخيفهم. فهم يدركون أن الاعتراف بالعصمة يتطلب منهم إعادة النظر في كل شيء: في إيمانهم، في سلوكهم، وفي طموحاتهم الروحية.
هؤلاء الحائرون هم الأكثر تجسيدا للهواجس الإنسانية، لأنهم يعبرون عن صراع داخلي حقيقي، هل يمكن للإنسان أن يكون معصومًا؟
وإن كان كذلك، فماذا يعني ذلك لي؟ هل هو أمل أم تهديد؟
هل هو نور يهدي أم عبء يُثقل؟ إنهم في منطقة التردد، حيث الحقيقة لا تزال مشوشة، والنور لا يزال بعيدًا، لكن ظلمات الشك ليست مأوى مريحًا لهم أيضًا.
العصمة بين القلب والعقل
في النهاية، العصمة ليست مجرد قضية عقلية تُحل عبر النقاشات اللاهوتية، بل هي قضية قلبية ونفسية، تتعلق بكيفية رؤية الإنسان لنفسه وللعالم من حوله. من يرى العصمة كحُجّة له، يرى فيها وعدًا بالكمال.
ومن يراها كحُجّة عليه، يراها كابوسًا يُطارده. أما الحائرون، فهم الذين لم يحسموا بعد ما إذا كانت العصمة بابًا للنور أم عبئًا لا يمكن احتماله.
إن العصمة، كفكرة، لا تعني فقط أن هناك من لا يخطئ، بل تعني أن الإنسان، في أقصى حالاته، قد يكون أسمى مما يظن. وهنا يكمن السر: هل العصمة نعمة؟ أم لعنة؟ حُجّة لك؟ أم عليك؟
بين هذين السؤالين، يُعاد تشكيل مصائر البشر، بين من يحتضن النور، ومن يهرب منه، ومن يقف في المنتصف، خائفًا من اتخاذ القرار.
العصمة ليست مجرد مقام روحي، بل هي ميزانٌ توزن به القلوب: من آمن بها اطمأن، ومن أنكرها اضطرب، ومن احتار فيها ظلّ عالقًا بين النور والظلمات، في انتظار لحظة اليقين.