سمير السعد
منذ فجر التاريخ، عُرفت السياسة بأنها فنّ الممكن. لكنّ “الممكن” هذا لم يكن يومًا خاضعًا للمبادئ بقدر ما كان رهينة المصالح. واليوم، ونحن نشهد التحولات المتسارعة في المواقف الإقليمية والدولية تجاه سوريا، يتجلّى هذا الواقع بأوضح صوره.
منذ أكثر من عقد، كانت سوريا ميدانًا لصراعات محتدمة، دفعت فيها دولٌ إقليمية وغربية، في مقدمتها الولايات المتحدة وبعض دول الخليج، بكل ثقلها السياسي والاقتصادي وربما العسكري لدعم معارضة تهدف إلى إسقاط النظام. فكان الخطاب معلنًا ، لا شرعية لنظام متهم بانتهاكات جسيمة، ولا مكان له في مستقبل المنطقة.
لكن، كما هي السياسة دومًا، لا ثوابت فيها إلا مصلحة الدولة. والعدو الذي كان بالأمس “خطرًا على المنطقة”، أصبح اليوم شريكًا “في محاربة التطرف”، أو بوابة “لإعادة الاستقرار”، بل حليفًا محتملًا في مواجهة تمددات إقليمية أخرى يُنظر إليها اليوم باعتبارها التحدي الأكبر.
في تطوّر لافت، شهدنا في الآونة الأخيرة تليينًا تدريجيًا في الموقف الأميركي، وفتورًا في لهجة العقوبات، يقابله انفتاح خليجي ملحوظ على دمشق، وصولًا إلى عودة العلاقات الدبلوماسية وإعادة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية.
فهل تغيّرت سوريا؟ أم تغيّرت الحسابات؟
الحقيقة أن ما تغيّر هو خارطة المصالح لا أكثر. فالملف السوري تراجع في سلّم الأولويات الدولية، بينما ترى بعض العواصم العربية أن الانفتاح المشروط قد يكون أداةً لضبط التوازنات، ووسيلة لاحتواء فراغ استراتيجي تُرك مفتوحًا لسنوات.
هذه التحولات تضعنا أمام واقع لا يمكن إنكاره: السياسة لا تُدار بقاموس الأخلاق، بل بخريطة المصالح. والبراغماتية التي كانت تُوصم بالانتهازية، باتت اليوم تُقدم بوصفها حكمة سياسية ضرورية. ففي عالم مضطرب، يتناقص فيه الحلفاء وتتعدد فيه التهديدات، يصبح البحث عن “أقل الأضرار” أولوية، حتى وإن تطلّب مصافحات غير مريحة.
إن عودة سوريا إلى المشهد العربي والدولي، وتخفيف القبضة الغربية، ليست شهادة براءة بقدر ما هي إقرار ضمني بأن الحرب الطويلة لم تُسقط النظام، وأن الواقع يفرض على الجميع تعديل خطابهم وتحالفاتهم.
يُقال إن السياسة ثاني أقدم مهنة في التاريخ، لكنها كثيرًا ما تُشبه أقدمها. كلاهما يتطلب مرونة، ومراوغة، وقدرة على تبديل الأقنعة حسب الظرف والمصلحة. وبينما يرفع البعض شعارات المبادئ، تمضي العواصم في رسم خرائط النفوذ من جديد، حيث يصبح عدو الأمس صديقًا، ومقاتل اليوم رفيقًا… بمحبة وود، لا أكثر.