د. علي المؤمن ||
في عالم تتكالب فيه المصالح المادية وتتعارض فيه السياسات مع الأديان الإلهية، وتُوظّف المفاهيم الدينية لتحقيق أهداف آيديولوجية استكبارية، يبرز كتاب «الإبراهيمية :حرب الاستحواذ على الموارد» بوصفه محاولة فكرية شجاعة لفضح أحد أخطر المشاريع المعاصرة التي تهدد الهوية الإسلامية، وتسعى لإعادة رسم الخارطة السياسية والدينية في المنطقة تحت غطاء (السلام الإبراهيمي). الكتاب من تأليف الدكتورة أمل الأسدي، الباحثة والأكاديمية العراقية، التي تتميز بلغتها الواثقة، ورؤيتها التحليلية العميقة، وجرأتها في تفكيك خطاب الهيمنة الصهيونية والغربية.
تتناول الباحثة محاور فكرية واستراتيجية أساسية في كتابها، وتغوص فيها تنقيباً وتحليلاً ونقداً:
1- المشروع الإبراهيمي في صورته الجيوسياسية والدينية، وتفكك أدواته من خلال تحليل خطابات ومؤتمرات وتقارير غربية.
2- قضية المرأة والتعليم بوصفها ساحات حرب ثقافية، عبر استعال مصطلحات مضللة تخفي وراءها أجندات تدميرية للهوية الأسرية والدينية.
3- مصطلح (الدبلوماسية الروحية) والتلاعب بالمفردات لتحقيق الهيمنة الناعمة، وتطبيع الخضوع عبر لغة مشوهة ومضللة.
4- جدران الصد في العالم الإسلامي، مثل المقاومة المسلحة والوعي الشعبي الذي يتحدى هذا المشروع.
5- العراق كنموذج حي لمكان تُختبر فيه أدوات المشروع، ويوضح كيف أن وعي الشعب العراقي، رغم الجراح، ما زال يشكل عقبة أمام مخططات التطبيع.
6- خصوصية الهوية العراقية، وتبيّن كيف أن عناصر مثل الزيارة الأربعينية تمثل حصناً روحياً وثقافياً في مواجهة مشروع الإذابة والتمييع.
7- المرجعية الدينية الشيعية والحشد الشعبي كجبهتي مقاومة داخل العراق، ودورهما الحيوي في حفظ التوازن وردع التغلغل الخارجي.
مشروع الإبراهيمية: قناع ديني لأطماع استعمارية
تعالج الدكتورة الأسدي في كتابها ما تسميه (المشروع الإبراهيمي)، وهو محاولة مموهة لإعادة استعمار الشرق الأوسط، ولكن هذه المرة عبر بوابة الدين والرموز المشتركة لا عبر الدبابات والجيوش. تصف المشروع بأنه خطة ماكرة تدّعي السلام والتقارب، بينما تهدف في جوهرها إلى محو الهويات الوطنية والدينية، وخلق (ولايات إبراهيمية متحدة)، تُدار من الخارج، ويُعاد من خلالها ترتيب موازين القوى والسيطرة على الموارد والثقافات. والمسار الإبراهيمي، بحسب الكاتبة، ليس سوى طريق سياحي ـ ديني زائف، يبدأ من أور العراقية وينتهي بمكة، مرورًا بعدد من الدول الإسلامية، ليُصبح لاحقًا أساسًا لزعزعة سيادة الدول، وتفكيك مفهوم المواطنة، وتمييع المفاهيم الإسلامية المقدسة.
ما يميز الكتاب هو وضوحه وصراحته في تسمية الأشياء بمسمياتها، فالمؤلفة لا تكتفي بعرض الفكرة بل تُعرّيها، وتربطها بسياقات تاريخية ومؤسسية عميقة. تتحدث مثلاً عن محاولات هدم الكعبة كحل “نهائي” للخلاف بين الأديان، وتربط ذلك بخطط توراتية صهيونية لطرد المسلمين من تاريخهم ومقدساتهم. وتشير إلى دور المنظمات غير الحكومية، والإعلام، وحتى الفنون، كأدوات اختراق ثقافي.
ويتراوح أسلوب الدكتورة أمل الأسدي يتراوح بين العمق الأكاديمي والسلاسة الجماهيرية، مما يجعل الكتاب مقروءًا من قبل الباحثين والجمهور العام في آن واحد. تبني رؤيتها على الربط بين النص القرآني والواقع السياسي، وهي بذلك تستحضر روح المقاومة من خلال استنهاض الوعي الديني، دون أن تنزلق إلى الشعاراتية أو التخويف.
أي أن الكتاب ليس مجرد نقد سياسي، بل رؤية شاملة لفهم كيف تتشكل معالم (الاحتلال الناعم)، الذي يلبس قناع (السلام)، ويتسلل إلى الشعوب من بوابة الرموز الدينية والمفاهيم المفرغة من معناها.
الكتاب لا يستسلم لنظرية المؤامرة الفارغة، بل يبني تصوراته على وثائق، وأحداث، وشهادات منشورة، ما يعطيه مصداقية ويجعله مادةً ضرورية لفهم ما يجري في الكواليس السياسية والثقافية للمنطقة. وبالتالي؛ فإن «الإبراهيمية: حرب الاستحواذ على الموارد» كتاب للوعي لا للهلع، ودعوة لليقظة، وليس للذعر، وتحديد لبوصلة البحث والتأمل والمنهج، وليس للانغلاق. وهو ليس كتاباً عن الدين فقط، ولا عن السياسة فقط، بل هو كتاب عن مستقبل المنطقة الإسلامية وهويتها،
ومن خلاله تحاول الأسدي أن تقول: إذا كنا نملك المقدسات، والهوية، والإرث الحضاري، فلا يجوز أن نُسلّمها بثمن أو بوهم.
ت
فكيك حرب الإبراهيمية
يعدّ كتاب الدكتورة أمل الأسدي من الدراسات القليلة باللغة العربية التي وضعت المشروع الإبراهيمي في إطاره السياسي ــ الاستراتيجي الممنهج. وأرى أنها
استطاعت أن تحقق أربعة أهداف مترابطة ومتكاملة:
1-كشف البعد التآمري لمشروع الديانة الإبراهيمية:
تعرضت الدكتورة أمل الأسدي لـ تحليل البنية السردية لمشروع الإبراهيمية، وبيّنت كيف تمّت هندسة هذه الفكرة دينياً، ثم تسويقها سياسيًا عبر ربطها بخطاب السلام والتعايش. الكتاب يكشف كيف أن الديانة الإبراهيمية ليست مجرد تصور ديني جديد، بل هي إعادة تشكيل لهوية شعوب المنطقة لخدمة الأمن الصهيوني.
2- كشف الهدف الخفي في ضرب نهضة الشيعة والمقاومة:
بيّنت الباحثة أن استهداف محور الرفض والعقيدة المتمثل في النهضة الشيعية والمقاومة والحوزات العلمية والوعي الشيعي ليس أمراً عارضاً، بل ضرورة استراتيجية لدى صُنّاع مشروع (السلام الإبراهيمي). وترى الدكتورة الأسدي أن ما يُقدم كـ (ديانة جامعة) إنما هو مخطط لضرب التجربة الشيعية الصاعدة التي استطاعت الجمع بين العقيدة والسياسة والمقاومة.
3- كشف علاقة مشروع الإبراهيمية بأنظمة التطبيع:
تناولت الباحثة (الهندسة الجديدة للخطاب الرسمي العربي)، وتوقفت عند تحوله من خطاب ديني أو قومي أو وطني رافض للكيان الصهيوني، إلى خطاب تصالحي (تسامحي) تطبيعي موجّه أمريكياً، تتبناه أنظمة البحرين والإمارات المتحدة والمغرب والأردن ومصر علناً، ونظام السعودية سرا.ً ويُعد هذا التحول أحد الأذرع التنفيذية لمشروع الديانة الإبراهيمية.
4- البعد التآمري المزدوج بين الديانة الإبراهيمية واتفاقيات إبراهام
أثبتت الكاتبة أن التطبيع السياسي بدون تمهيد ثقافي وديني لن يُنتج تطبيعًا دائمًا، ومن هنا جاء دمج السياسة بالعقيدة الزائفة من خلال وهم (الديانة الإبراهيمية).
في الختام، يمكن القول إن كتاب الدكتورة أمل الأسدي ليس مجرد نقد أكاديمي لخطاب (الديانة الإبراهيمية)، بل هو تفكيك لأحد أخطر مشاريع السيطرة الثقافية والسياسية على المنطقة، والمداخل التي طرحتها تمثل تطبيقاً حياً وتحليلاً استراتيجياً لنتائج ذلك المشروع على الهوية الدينية الإسلامية الشيعية، ومقاومة الهيمنة الصهيونية، ودور الأنظمة المطبعة، والخطر الثقافي المتخفي بثوب الدين المشترك.
ولا يقتصر الكتاب على كونه مرجعاً فكرياً سياسياً في موضوعه، بل هو دعوة صادقة ومهمة لكل من يهتم بمصير الأمة وحق الشعوب في السيادة والكرامة. من هنا يأتي دوره كدرس جوهري في الكشف عن الأهداف الحقيقية لمشروع الإبراهيمية وديانته الوضعية المزيفة ومساره الاستكباري واتفاقياته الاستسلامية، وهو دعوة مفتوحة للمقاومة الفكرية والسياسية ضد كل محاولات التآمر على الهوية والحقوق.
وبالتالي؛ فإن من يريد أن يفهم كيف تتحول الرموز الدينية إلى أدوات استراتيجية في الحروب الحديثة، ولكل من يعتقد أن الحرب اليوم لم تعد فقط بالرصاص، بل بالكلمات، والخرائط، والمفاهيم، و(الصلوات المعدلة)؛ حري به أن يقرأ الكتاب.