جاري تحميل ... مدونة المرجل

الاخبار

إعلان في أعلي التدوينة

 


رياض الفرطوسي ||


ثمة شهور لا تمر كبقية الأشهر، بل تمكث في الروح كما تمكث الأغاني القديمة في الذاكرة: لا تُنسى، ولا تُستعاد بسهولة. تلك هي “أشهر الحنين”، لا تسكن في التقويم بل في القلب، ولا تُحسب بالأيام بل بالألم، بالأصوات التي عبرت، بالوجوه التي غابت، وبالأمكنة التي لم تعد تصلح إلا للخيال.

الحنين ليس عاطفة ناعمة كما يتصوّره البعض، بل هو غارة جوية من الماضي، مباغتة، تهبط على أيامك في الغربة وكأنها تعاقبك على النجاة. لا شيء يُمهّد لها: قد تكون جالساً إلى فنجان قهوة، أو تسمع نغمة عابرة، أو قصيدةً لمظفّر النوّاب، أو تهدّج صوت حمزة الزغير في قصيدة «الميمون»، أو لحناً لكوكب حمزة على إيقاعات المنفى. ولا أعرف إن كانت هذه الأوتار قادرة على أن توصلك إلى عشرة أيّام من أشهر الحنين في الغربة. وقد يكون كل ما في الأمر أنك تلمح ظلّ امرأة يشبه نصف ابتسامة قديمة، فينهض كل شيء دفعة واحدة. فالحنين لا يستأذن، ولا يُطرد.

يقول الفلّاحون إن نخلة البرحي العراقية تميل بجذعها نحو الأرض التي اقتُلعت منها، وكأنها لم تتقبّل فكرة الرحيل. هكذا نحن أيضاً: أرواحنا تميل، دون أن نعلم، إلى أمكنة لم تعد موجودة، ووجوهٍ تاهت في الزحام، وأصواتٍ كانت لنا مثل الأهل، لكنها ذابت في ضجيج العالم.

هل يمكن التحرر من الحنين؟ ربما لا. فالحنين، كما اكتشفنا متأخرين، ليس فقط شعوراً نحو الماضي، بل أحياناً يُولد من المستقبل الذي لم نبلغه، من الأحلام التي لم تتحقق، من البلاد التي لم تعد كما كانت، ولا كما تخيلناها. هو محاولة مستحيلة لاحتضان ظلّ، أو لبعث رائحة من أيام الأمس في غرفة اليوم.

لقد كنا نظن أن الوطن يسكن في الجغرافيا، فإذا به يسكن في الإيقاع المكسور لصوت مغنٍ شعبي، في زفرة شاعر قُتل ولم يُدفن، في شارع قديم صار موقفاً للسيارات، في صديق صار غريباً، أو في لغة نطقناها بحذر طويل في غرباتنا ثم صارت موسيقى يومية لا نُجيد غيرها.

الحنين داء نبيل. ولعل الكاتب التشيكي الفرنسي ميلان كونديرا (1929-2023)، الذي عرف بأسلوبه الفلسفي العميق في الرواية، لم يكن يبالغ حين وصف الحنين بأنه شكل من «الجهل»؛ ليس لأننا نجهل ما فقدناه، بل لأن ما نشتاق إليه لم يعد موجوداً كما نتخيله. نحن لا نشتاق إلى الأمكنة كما هي، بل إلى أنفسنا حين كنا فيها. لا نحِنّ إلى الوطن بقدر ما نحِنّ إلى النسخة القديمة منا التي عاشت هناك.

وما أقسى العودة بعد طول حنين. أن تدخل المدينة التي حلمت بها طيلة المنفى، ثم تكتشف أن شوارعها نكأت ذاكرتك لكنها لم تعترف بك. أن تقابل أولئك الذين تحدثت عنهم طيلة الغربة، فتكتشف أنهم نسوك، أو تحولوا إلى آخرين. أن تعود حاملاً باقة الورد، فلا تجد أحداً يمدّ يده.

والمفارقة الأكبر أن يكون الحنين هو الذي يدفعك إلى العودة، وهو ذاته ما يجبرك على الرحيل مجدداً. إذ حين ترى الناس وقد تغيّروا، لا يعود الحنين طاقة وصل، بل يصبح سبباً في وجع جديد. فلا شيء يعلّقك بالأمكنة مثل ذكرياتك عنها، ولا شيء يحرّرك منها مثل خيبة عودتك إليها.

ولذا، ربما يكون الخلاص في تبديل الاتجاه. أن نعيد توجيه الحنين لا إلى الخلف بل إلى الأمام، أن نشتاق لما سيكون، لا لما كان. أن نرسم وطناً في المنعطف، لا في المرآة. أن نُعيد بناء الصور لا من أنقاض الماضي، بل من احتمالات المستقبل. أن نجرّب، ولو مرة، أن نحبّ البلاد التي سنخلقها، لا التي ورثناها محطّمة.

في أيام الغربة الطويلة، تعلّمنا أنّ كلّ شيء يزول، إلا الأصوات التي سكنّاها: اللكنة، والقصيدة، واللحن، وتفاصيل الأشياء الصغيرة. أدركنا أنّ الوطن ليس خريطة على ورق، بل هو اللغة حين تُقال بعفوية، وهو فنجان شاي يُشرب مع شخص يعرف سرّك دون أن تبوح به، وهو الأصدقاء الذين يشبهون بيتاً يتنفّس.

لكن حتى هذه الأشياء البسيطة، عندما تُعاد من بعيد، تصبح مقدسة بلا سبب. هكذا يصنع الحنين فضائل وهمية. نحول الأشخاص العاديين إلى رموز، والأمكنة العابرة إلى أساطير. وهذا هو مكمن الخطر: أن يُجمّلنا الحنين أكثر مما نستحق، ويُجمّل أوطاننا أكثر مما هي.

كم من مرة تحدّثنا بفرح طفولي عن أشياء لم نكن نحبها في السابق، فقط لأن الحنين مرّ بها؟ كم من مرة تمسّكنا بلهجاتنا، بعاداتنا، بتفاصيل مُنهكة، لا لشيء سوى لأننا افتقدناها؟ في الحنين، كل شيء يتقدّس، حتى الألم.

ومع كل هذا، لا يمكن إنكار أن الحنين هو الذي أنقذنا من ذبول الروح. هو الذي أعاد ترتيب أرواحنا، ومنحنا القدرة على التحمل. الحنين كان دوماً دربنا إلى الإنسان الذي لم يُكملنا، والمدينة التي لم نغادرها فعلياً، والطفولة التي لم تقل وداعاً.

لكن الآن، وقد عرفنا طعم العزلة الطويلة، آن الأوان أن نحلم بما لم يكن. أن نؤمن بأن الحياة لا تبدأ من الذاكرة فقط، بل من المخيلة. أن نخلق أوطاننا المقبلة من غبار الأمل، لا من رماد الحنين.

في النهاية، ليس أجمل من أن يكون لك وطن في المنعطف، وطن لم تره بعد، لكنه يراك.

وهو ليس بالضرورة وطناً جديداً بجغرافيا مختلفة، بل قد يكون وعداً لوطن نصنعه من قيم لم نجدها في الأوطان التي خذلتنا.

وقد يكون الوطن نفسه، لكن برؤية أصفى، وبنسخة منا أكثر وعياً.

أو لعله وطن داخلي، نبنيه في أرواحنا حين تضيق بنا الأمكنة.

ذلك “الوطن في المنعطف” ليس مكاناً محدداً، بل هو احتمال، وأمل، ووعدٌ نكتبه

بأ نفسنا… لا نراه بعد، لكنه يرعانا من بعيد.

تعديل المشاركة
Reactions:
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال