أمين السكافي ||
يُولد طفل في مكان ما في هذا العالم المترامي الأطراف، لعائلة ميسورة، قد جهّزت له حتى من قبل مجيئه حياة كريمة. فهو، من لحظة خروجه من رحم والدته، قد كُتب له رغد العيش، من ملبس ومأكل وتعليم، ومنزل يحتوي على كل ما يحتاجه الإنسان ليكون مرتاحًا في بيئته. وهذا عدا عن الألعاب والهدايا التي تُفرح قلبه وتسعد طفولته.
وهكذا تستمر الحياة حتى يصل إلى أن يتخصص بما يريد ويهوى، وطبعًا في جامعات لا تستطيع الأغلبية مجرد لفظ أسمائها، لأن التعليم فيها مكلف، فهي تقتصر على أبناء الذوات الميسورين، ليتخرّج بعدها ويذهب إلى ميادين العمل، بعد أن أُمنت له -بفضل علاقات أهله- الوظيفة المريحة التي تدر عليه مدخولًا يسمح له بالعيش بالمستوى الذي كان عليه في منزل والديه.
وتمضي الحياة على هذا المنوال، من الراحة والاكتفاء، والحصول على كل ما تريده العائلة ومتى ما أرادته.
النتيجة، عزيزي القارئ، أن هذا الشخص وأمثاله قد كُتبت أقدارهم من قبل أن يأتوا إلى هذه الدنيا. وكُتب لهم أن يعيشوا مُرفّهين لا يعرفون معنى العوز والفاقة، وأن جل أحلامهم قابلة للتحقيق.
وهنا نحن نتكلم عن المجيء إلى هذه الدنيا: إن كان لعائلة ميسورة، أو بلد من البلدان التي تحترم الإنسان وتقدّره، وترافقه في مشوار حياته، وتكون العصا التي يتوكأ عليها في سنيّ عمره، ولتكن له العائلة الكبرى التي تهتم به وترعاه.
حسنًا، لنأتِ الآن إلى المقلب الآخر من البشر في هذا العالم، والذين هم –وأظن– الأغلبية الساحقة.
في منزل من المنازل البائسة، في حيّ من الأحياء المعدمة، حيث أغلب متطلبات الحياة مفقودة: فالمياه عزيزة، والكهرباء زيارتها شبه منعدمة، والطعام لا يتوفّر دائمًا، يأتي طفل إلى هذه الدنيا لأبوين شبه معدمين، لا يملكان من حطام هذه الدنيا إلا العوز والفقر.
يأتي هذا الطفل ليزيد عدد الأفواه الجائعة والبطون الخاوية، حتى حليب أمه –المتقطّع، غذاؤه الأول في هذه الدنيا– لا يكفيه، بسبب عدم تمكّن الأم من تأمين الطعام لها حتى يُدر الحليب.
وهكذا تبدأ حياته: فقر وحاجة وعوز منذ الطفولة.
دعونا نصف هذا المشهد لهذه العائلة:
والد يعمل كأجير في واحدة من مهن عديدة لا تحتاج للشهادات، بل للعمل الجسدي، وبالطبع السمع والطاعة لوليّ الأمر الذي يخدمه.
وهذا عدا إن كان رب العمل نزقًا ومتعاليًا، فهنا تصبح الإهانات وتحملها الخبز اليومي، ولتعتاد عليها شيئًا فشيئًا حتى تُنتزع الكرامة، ولا يعود لعزّة النفس وجود. فقط شخص يتحرّك كآلة، يتحمّل جميع الإهانات، وفي ذهنه صورة واحدة: زوجته وأولاده الجائعين الذين ينتظرون عودته، وآلام الجوع تنهش أجسادهم.
بدأ هذا الطفل، بعد الحبو، يمشي، وطبعًا يحمل معه شهادة معنوية وهي “سوء التغذية”. إفطاره: كسرة خبز بُلّلت بالماء، في انتظار عودة أمه من عملها كخادمة في منازل الموسرين، حيث تمسح وتكنس وتنفض الغبار، وتُحضّر طلبات أهل البيت من شراب أو طعام.
وطبعًا، يقع على عاتقها أن تتحمّل عجرفتهم وتعاليهم. والمصيبة الأكبر، إن كانت عليها مسحة من جمال، فهنا تَحلوا في عين سيد البيت، ولتبدأ مضايقاته، حتى تستسلم له صاغرة، بكل ذلّ الدنيا، أو تُغادرهم إن لم يطردها، لعدم تلبية رغباته الدنيئة، وكأن الغنى يعطي الحق للغني بأن يتملّك حتى شرف الفقير.
يخطو الصبي المعدم أولى خطواته في الحياة في البيئة المحيطة له، يلهو مع أقرانه في زواريب الأحياء، التي تشكّلت من مجموعات بائسة من عائلات وبيوت تشبه بعضها بعضًا.
وعادةً ما يكون اللعب بما تيسّر من أدوات وضعتها الطبيعة في طريقهم، فطرق الملاهي أو السينما أو المطاعم ليست لهم، وأكبر أحلامهم هي قطعة لحم كانت من نصيبهم على الغداء كل بضعة أيام.
أما الأيام الباقية، فقد يكون الجوع رفيقهم الذي اعتادوا صُحبته.
هؤلاء الذين أتوا الدنيا وكُتب عليهم الفقر والعوز والانحناء بذل أمام من يملك ما لا يملكون، فمع البرد شتاءً، والحرارة صيفًا، يتعلمون أن يكونوا أذلّاء، كل همّهم في الحياة أن يُحسنوا خدمة الأغنياء كي ينالوا الرضى، ومعه ما يسدّ الرمق.
وتستمر الحياة، ويستمر الفارق في الاتساع بين غني وفقير: غنيّ مُتخم، وفقير جائع.
لماذا الدنيا على هذا المنوال؟
لماذا يوجد غني وفقير؟
لماذا كُتب على الفقير أن يعيش المهانة والمذلة، وأن يُستحقر فقط لأنه لا يملك؟
ولماذا يتنعّم أناس بكل ما لذّ وطاب من هذه الدنيا، دون أن يشعروا بمن هو أدنى منهم ماديًّا، بل ويعمل بعضهم على إذلال من هو أدنى فقط ليرضي أنانيته؟
أليس البشر كلهم من آدم؟
أليس الخالق للجميع هو الله الواحد الأحد؟
فلماذا تُكتب الأقدار بتمييز الناس عن بعضهم؟
ولماذا قُدّر للبعض انتظار الموت، عسى أن يكون من نصيبهم الجنة، ليعيشوا فيها ما لم يستطيعوا عيشه في الدنيا؟
هل هو ظلم البشر للبشر، كما نُسب للإمام علي مقولته:
“ما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني”؟
وهل ترك الله سبحانه وتعالى أقدار البشر بينهم، ليُقيموا العدالة الإنسانية، أو ليظلموا بعضهم بعضًا؟
أم أن أقدار الناس كُتبت في اللوح المحفوظ، وقُضي الأمر، وهنا يكون الله هو من وزّع الأدوار على البشر في الدنيا، لأن أقدارهم قد كُتبت منذ آلاف السنين؟
وهنا نبحث عن العدالة الإلهية التي قسمت الأرزاق بين الناس، فجعلت من كل إنسان ما هو عليه.
وهنا ندخل في جدلية الإنسان:
مسير أم مخير؟
ولهذا بحث آخر، نأتي إليه لاحقًا.