كوثر العزاوي ||
إنّ من أعظم الشهادات الإلهية في حقّ النبيّ الأعظم “صلى الله عليه وآله” هو قوله “عزوجل”:
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم ٤.
وحقيقة الخُلُق: هو ما يُلزم به الإنسان نفسه من الآداب، وإنما سمّيَ خُلُقًا لأنه يصير كالخِلْقة فيه!.
فما بالك بمَن تولى الله تعالى تربيته وصياغة شخصيته بالوحي والتأييد، حتى بلغ الذروة في الكمال والخُلُق العظيم!.
فصار “صلى الله عليه وآله” المثال الأعلى الذي يُحتذى، والقدوة التي لا يدانيها أحد.
إنّ ماقيل في معاني الخُلُق العظيم، الصبر على الحق، وسعة البذل، وتدبير الأمور على مقتضى العقل، بالصلاح والرفق والمداراة، وكذا تحمّل المكاره في الله سبحانه، والتجاوز والعفو، وبذل الجهد في نصرة المؤمنين، وترك الحسد والحرص ونحو ذلك من محاسن الأخلاق ومكارمها.
لقد حاز نبيّ الرحمة محمد “صلى الله عليه وآله” كلّ مكارم الخلق العظيم وأعلاه، فهو الشخصية العظيمة الذي اجتباه الله تعالى بالنبوّة والفضل، واعتلىٰ المكرمات،
إذ عُرف بين أبناء قومه قبل بعثته الشريفة بالصادق الأمين.
كما عرّفه الله “عزوجل” بعد بعثته للناس نبيًّا حين اصطفاه بالرسالة نجيّا، فكلّفه مَهمة هداية البشرية في ذلك المجتمع الجاهليّ، بما فيه من عادات ومعتقدات خاطئة وتصرفات بالية، فكان دوره “صلى الله عليه وآله” عظيمًا شاقًا، في احتواء وتغيير ذلك الكمّ الهائل من التخلف والعدوانية، عبر حواره الصريح الليّن،
ومنطقهِ الجميل الواضح، بهدف الإصلاح والهداية إلى ما فيه خير الأمة وسعادتها في الدنيا والآخرة.
فالجدير بأمّة محمد “صلى الله عليه وآله” استلهام الدروس والعِبر من سيرة هذا المرسَل العظيم، ولعل أقرب سبل الوصول الى ذلك الخُلُق، هو التأمل بما جاء في القرآن الكريم، من رسْم الخطة الإلهية التربوية العملية، التي علّمها الله تعالى نبيّه، ليبلّغها سائر البشر، والأخذ بها نهجًا ومنظومة للحياة، حسب ما جاء في قوله”عزوجل”:
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} الجمعة ٢
في سياق الآية المباركة ندرك، ضرورة اعتماد توجيه الله في تقديم مسألة تزكية النفس، وِفق المنهج الرّباني، على مسألة التعلّم والتعليم، وتبنّي القيم السماوية واعتناقها من جهة، وضرورة الحكمة ووضع الأشياء في مواضعها من جهة أخرى.
ومثل هذا التتابع في مَهمّة التربية والتأديب في منهج الله تعالى لعباده، محال أن يأتي من فراغ.
وقد نفهم من ذلك، أنّ من السهل أن يكون الإنسان عالمًا عارفًا، ولكن في خطواته العملية، وممارساته اليومية لايعمل بالمنهج العقلي، ولا بمنهج العلم الذي تَعلّم، أو قد لايضع الأمور في مواضعها الملائمة، لغياب الحكمة عن تطبيقه العملي أثناء حركته في الحياة، مما يُفقِد العمل قيمته ومصداقه.
من هنا يبيّن ربّ العالمين دور رسوله الأعظم في المجتمع، ويؤكد على استهلال تكليفه بتزكية الأنفس، وتربية الذات، وتطهير وسائل السير، ثم يأخذ التعليم والتعلّم دوره بيسرٍ ووضوح.
خلاصة الدرس المستفاد:
ليس كل مثقفٍ أو عالِمٍ أو خبيرٍ، يرقى إلى الخلق الإلهي، فالعلم بلا تزكية وفق تعاليم السماء، لا يصنع إنسانًا ربّانيًا، لأن الله “عزوجل” اصطفى نبيّهُ إنسانًا قبل أن يبعثه نبيّا، فجعل أخلاق الله منهاجه، حتى بلغ الغاية من الكمال الربّاني، ليربّي الأمة وفق ذلك المنهج، أمثال”أبا ذر، وعمار، وسلمان، والمقداد وغيرهم، من الخلّص الذين امتثلوا شخصية نبيّهم وأدبه السماويّ، حتى وصلوا أعلى المقامات وسموّ الدرجات حدّ التفاني والفناء في سبيل الحق!.
فمن يكون الله تعالى له مربيًا ومؤدبًا، سيكون الكمال رفيقًا له، والتأييد محيط به، ولو كره الكافرون.