رياض البغدادي|
على الرغم مما تتمتع به الولايات المتحدة من عناصر القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية الهائلة، فان أي استقراء هاديء ومتأمل لستراتيجيتها يجد أنها مبنية على الشكوك والمخاوف والنظرة السلبية القائمة الى نفسها والى العالم .
والواضح من تصرفات قادة الولايات المتحدة وردود افعالهم، وفي بعض الأحيان من ۔ تصريحاتهم، انهم يشكون في كل العالم ويخافون من كل العالم، كما لو كانت الولايات المتحدة جزيرة محاطة بالمنافسين والطامعين والأعداء فقط .
ذلك ان القادة الأمريكان يخافون من الأصدقاء والحلفاء مثلما يخافون من الخصوم والأعداء، ويتطيرون من الأعداء المحتملين مثلما يتطيرون من الأعداء المحققين، حتی لیبدو عليهم وكانهم مستعدون مع "بول کندي"(1) لتشييع جثمان إمبراطورية آفلة، بدلا من ان يحتفلوا مع "فوکویاما"(2) بـ نهاية التاريخ فهم يخافون من أوربا الموحدة، ومن المانيا الموحدة، ومن اليابان الصاعدة، ومن الصين التنين الاقتصادي، وروسيا بوتين القوي، وهم يترصدون كل بلد من بلدان العالم الثالث، ناهض او مرشح للنهوض، وهم يحسبون حسابات خاصة للجمهورية الإسلامية الإيرانية، لانها تنطوي على إحتمالات خطر كاسح عظيم في رأيهم، لذلك يصح أن توصف الستراتيجية الأمريكية تجاه العالم بأنها ستراتيجية الخوف، لان الخوف، وليس الإقتدار، هو الذي يتحكم بها ويوجه حرکتها، ولا تستطيع كل الجعجعات التي احترفها رؤساء أمريكا وآخرهم ترامب ان تغطي على هذه الحقيقة .
ان ستراتيجية كهذه لا تدل على ثقة الولايات المتحدة بنفسها، ولابعناصر قوتها، ولا بأصدقائها وحلفائها، بل تدل، أصلا، على عقلية سلبية تهيمن عليها الأوهام والشكوك، اكثر مما تهيمن عليها النظرة الموضوعية الى العالم، والروح الايجابية للتفاعل معه .
بل يبدو ان النظرة الموضوعية الى العالم في منطق القادة الأمريكان، هي النظرة التي تقوم على مبدأ الشك قبل الثقة، ومثل هذه النظرة لاتصدر إلا عن إحساس خفي او مخفي بالضعف والتصدع .
ان هذا الخوف الأمريكي من العالم هو خوف تقليدي، هو ذات الخوف الذي كان يلازم المهاجرين الأوائل، الى القارة الجديدة، حتى بعد فترة طويلة من إستقرارهم فيها، وكل مظاهر الغطرسة والتبجح التي تبديها الولايات المتحدة هي تعبير عن هذا الخوف، فالقوي الخائف إما أن يجعجع او يبطش .
لقد سبق للأمريكان ، بدافع من هذا الخوف، ان خلقوا حول انفسهم وهم انهم "عالم جديد" يخلو من (شرور) العالم القديم و(عيوبه)، وقد دفعهم هذا الوهم الى العزلة عن العالم ردحا من الزمن، وحين خرجوا من عزلتهم، خرجوا وهم يحملون خوفهم وشكوكهم في الأعماق، فراحوا يجعجعون ويبطشون في آن واحد ،
لذلك لايريدون او لعلهم لايستطيعون، التعامل مع دول العالم، بما في ذلك الدول الحليفة، على قدم المساواة، وبروح ايجابية منفتحة، بل يريدون فرض الهيمنة عليها جميعا بالتخويف، فالخائف لايستطيع الهيمنة على الاخرين الا بتخويفهم.
انهم يخيفون الجميع من الجميع يخيفون العالم من الولايات المتحدة، ويخيفون دوله بعضها من بعض، فهم يخيفون المانيا من روسيا ويخفون بريطانيا من اوربا الموحدة، اما اليابان فيخيفونها من الصين ومن روسيا، ويخيفون أعراب الخليج من إيران ... الخ ... وهكذا يوحون للجميع بانهم لايستطيعون الإعتماد على بعضهم بعضا، بل يستطيعون الإعتماد فقط على الولايات المتحدة وحدها، لضمان أمنهم واستقرارهم ولايتورع أحد كبار الساسة الأمريكان عن القول علنا "بان هذه الدول تثق بالولايات المتحدة أكثر مما يثق بعضها في بعض"(3)، وهكذا تقوم ستراتيجيتهم، حتى مع حلفائهم، على زرع المخاوف والشكوك .
لسنا بصدد تقديم نصيحة مجانية للامريكان، ولكن بصدد وصف ماوراء الستراتيجية الامريكية من دوافع سيكولوجية تفسر جانبا من تصرفاتهم، إن بناء ستراتيجية فعالة يعني إنتقاء خيارات، وإنتقاء الخيارات يعني اعتماد سلما واضحا للاولويات، ولكن ستراتيجية تقوم على الخوف والشك كالستراتيجية الأمريكية تعني اللجوء الى الدفاع، في كل مكان من العالم .. "ومن يحاول الدفاع في كل مكان لا يدافع عن شيء" كما قال "فردريك الكبير" (4) لذلك كله نقول أن الولايات المتحدة لاتصلح لدور قيادة العالم، الذي تريد فرضه على الآخرين، لان المتشكك الخائف لايصلح للقيادة، إذ ستكون جميع افعاله وردود افعاله محكومة بعقدة الشك والخوف هذه، وسيرتكب في كل يوم الحماقة تلو الحماقة، ولن تكون هذه الحماقات في مصلحته ولا في مصلحة العالم، .
أن الطريقة الأفضل للتعامل مع الولايات المتحدة الخائفة، هو عدم أعطائها الفرصة لتسترجع أنفاسها، وعلى أعدائها استثمار خوفها بمزيد من العمل، بحيث تصحو على خوف وتنام على خوف مثله، وبهذا تتحقق الارادة بالتخويف المستمر ... الهوامش
(1) بول كينيدي، المؤرخ الأمريكي البارز صاحب كتاب نشوء وسقوط القوى العظمى .
(2) فوكوياما، عالم وفيلسوف سياسي أمريكي صاحب كتاب نهاية التاريخ والإنسان الأخير.
(3) ينسب القول الى هنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة في عام 1973 .
(4) الملك فريدريك الكبير تحولت ألمانيا في عهده إلى قوة عالمية بل يجمع المؤرخون الالمان على اعتباره المؤسس الحقيقي لألمانيا الحديثة ففي عهده تم تحديث النظام القانوني وعززت حرية الصحافة، والتسامح الديني، وحقوق المواطنين، وفي عهده تم الترويج الى فكرة أن العمل لا يقل قدسية عن قدسية الرب .