د. أمل الأسدي ||
كانت ومازالت الأم العراقية تحب أسرتها وتفضلهم حتی علی نفسها، وتعتني بتفاصيل البيت الصغيرة والكبيرة، وإذا ما عدنا إلی خمسينيات القرن الماضي وتجولنا في محلات الكاظمية لشممنا مختلف الروائح الزكية، تنبعث من البيوت، من مطابخ الأمهات “المعدلات” فتشم رائحة “السبيناغ” وقت نزوله، وتشم رائحة “الحامض شلغم” بكبته المميزة التي ينفرد بها المطبخ الكاظمي عن سائر مطابخ العراق، فالجدة “خجة المعطوش” المنظمة جدا، كانت تغسل “التمن عنبر” وتنشره ليجف، ثم تطحنه بـ”الجاون” مع هبر اللحم مع الكراث، ثم تعجنه، وتعد حشوة الكبة، وتجلس تلفها ريثما تجهز”شوربة الحامض شلغم” لتضعها فيها، وبلغت بها محبتها لأولادها وأحفادها؛ أن تطرق باب الجيران ليلا ، تبحث عن وريقات “السلگ” لأن حفيدها أراد أن يأكل “الدولمة” والأسواق ـ سابقا- تُغلق مبكرا ويعود الجميع إلی بيوتهم؛ لهذا طلبت له” السلگ” من جارتها.
وفي شهر رمضان المبارك كانت العوائل تأكل” النواشف والمرگ” مع الخبز في الفطور، وتطهو ” التمن “.وقت السحور، وبعد أن” يتهدر التمن علی “المكينة، تفرگع له الأم بالدهن الحر” فتتناول الأسرة السحور ثم تتوجه الی الحضرة الكاظمية لقراءة القرآن وصلاة الفجر، ثم يعود الجميع الی بيوتهم التي تفيض محبةً وصفاءً، “فگلوب اهل الاول” طيبة، لاتعرف الغل، ونفوسهم نقية لم تشوهها وسائل التواصل الاجتماعي ولم تلوثها مشاهد المحتوی الهابط!!
أما العيد فله طقوسه الخاصة وأولها ” الكليچة” فتذهب الجدة” خجة” الی المطحنة، لتطحن الحنطة في السميلات، وتعود بها مطحونة ورائحتها الزكية جدا، تركض قبلها، ثم تحضّر التمر بالدهن الحر والهيل، وتذوّب كمية كبيرة من الدهن الحر أيضا، وتجلس مع كنتها لـ ” تفرك الطحين بالدهن” وهي تقول: اصل الكليچة تفريك الطحين!
ثم تعجنها بطشت كبير، وتدثرها كي تختمر، وتحضّر الجوز مع السكر، وتبدأ هي وكنتها وحفيداتها بحشوها، وضربها بالقالب الخشبي، ثم يصنعن منها علی شكل “لعابة” للبنات وعلی شكل سيف الإمام علي للبنين.
بعدها تشعل كنتها التنور الطيني، وتخبز الكليچة بيدها اثنين اثنين أو ثلاث ثلاث… ورائحتها تفوح وتعبر السطوح، وجيرانها تقول لهم: گبل گبّال سويتي الكليچة يا ام غني؟
فتضحك الجدة وتقول: هاي حصتچ طلعتها هسة ادزيالچ!
وهكذا كانت العوائل والبيوت والجيران، كانوا جسدا واحدا، حتی أن أغلبهم يفكر بالطريقة نفسها، ويحب الأشياء نفسها، ويصنع الصنيع نفسه!
وكان النزول الی” الولاية” أي الكاظمية، فيه متعة خاصة، وله نكهة خاصة، يكون كما يقولون: هم زياره وهم تسياره!