الشيخ حسن عطوان ||
في طريقه الى العراق التقى الإمام الحسين ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) بعددٍ من الرجال دعاهم الى نصرته ، منهم :
عبيد الله بن الحر الجعفي .
أرسل له الإمام رجلاً من أصحابه يُقال له الحجاج بن مسروق الجعفي ، فأقبل فسلّم على ابن الحر ، فردّ عليه السلام ، ثمّ قال :
ما وراءك ؟؟
أجاب الحجّاج : ورائي يا ابن الحر أنَّ الله قد أهدى إليك كرامة إنْ قبلتها .
فقال : وما تلك الكرامة ؟؟
فقال : هذا الحسين بن علي يدعوك إلى نصرته ، فإنْ قاتلتَ بين يديه أُجرتَ ، وإنْ قُتلتَ بين يديه استُشهدت .
فاعتذر قائلاً :
والله يا حجاج ما خرجتُ من الكوفة إلّا مخافة أنْ يدخلها الحسين وأنا فيها ولا أنصره .
فجاء الحجاج وأخبر الإمام بذلك ، فأقبل ( عليه السلام ) حتى دخل على ابن الحر ، فلما رآه قد دخل وسلّم ، وثب عبيد الله بن الحر وتنحى عن صدر مجلسه فجلس الإمام ، ثمّ قال :
يا ابن الحر ما يمنعك أنْ تخرج معي ؟؟
فقال :
والله ، إنّي لأعلم أنَّ مَن شايعك كان السعيد في الآخرة ، ولكن ما عسى أنْ أُغنيَ عنك ، ولم أُخلِّف لك بالكوفة ناصراً ، فأُنشدكَ الله أنْ تعفيني ، فإنَّ نفسي لم تسمح بَعْدُ بالموت ، ولكنّ هذه فرسي المُلحِقة ، والله ما طلبتُ عليها شيئاً قطّ إلّا لحقتُه ، ولا طلبني وأنا عليها أحد قطّ إلّا سبقتُه ، فخذها ، فهي لك ، لتلحق بمأمنك ، وأنا ضمين لك بعيالاتك أؤديهم إليك أو أموت أنا وأصحابي دونهم .
فقال الإمام : أهذه نصيحة منك ؟؟
قال : نعم والله .
قال : يا ابن الحرّ ، ما جئناك لفرسك ، إنّما أتيناك لنسألك النصرة ، فإنْ كنت قد بخلتَ علينا بنفسك ، فلا حاجة لنا في شيء من مالك .
وإني سأنصحك كما نصحت لي :
إنْ استطعت أنْ لا تسمع واعيتنا ، فافعل ، فوا الله لا يسمع واعيتنا أحد ثمّ لا ينصرنا إلّا أكبّه الله على منخريه في النار .
ثم ..
انتهت واقعة كربلاء بما انتهت عليه ..
وانتشرت أصداء أخبارها ..
فبدأت رحلة الندم الذي أقض مضاجع الجعفي ، وتمظهر ذلك في شعره :
فَيَا لَكِ حَسْرَةً مَا دُمْتُ حَيّاً
تَرَدَّدُ بَيْنَ صَدْرِي وَالتَرَاقِي
حُسَيْنٌ حِينَ يَطْلُبُ بَذْلَ نُصْرِي
عَلَى أَهْلِ الضَّلالَةِ وَالنِّفَاقِ
وَلَوْ أَنِّي أُوَاسِيهِ بِنَفْسِي
لَنِلْتُ كَرَامَةً يَوْمَ التَّلاقي
فلو فلقَ التّلَهُفُ قلبَ حيٍّ
لَهَمَّ اليومَ قلبي بانفلاقِ
فقد فاز الأولى نصروا حُسيناً
وخاب الآخرون أولوا النفاق ..
لكن للمواقف رجال ..
ومن فاتته تلك المواقف ، فلن ينفعه ندم ، وسيموت بحسرته .
كم هو عدد الأيام التي كسبها الجعفي في الدنيا بعد الإمام ؟؟
كم هي الأيام التي خشي أنْ تفوته لو أُستشهد مع ذلك الركب الطاهر ؟؟
تنقل التواريخ : إنّه بعد ذلك تَقَلَبَ مع الولاة ، مع المختار ثم مع ابن الزبير ، ثم انقلب عليه فذهب لعبد الملك بن مروان وبايعه ، وعاد بدعمٍ منه لقتال والي الكوفة عن الزبيريين ، فُهزم ، وهرب على ظهر سفينة ، وبعد أنْ لحق به جماعة من أعوانهم رمى بنفسه في نهر الفرات فمات غرقاً ، وكان ذلك في عام ( 68 هجرية ) .
أي أنَّ كل ما عاشه الجعفي بعد الطف كان أقل من ( 8 ) سنوات ، قبع فيها في ذلٍّ وهوان وندم ، متنقلاً فيها من هذا الولاء لذاك ، فسجّله التاريخ في عداد المتخاذلين عن نصرة الحق ، في الوقت الذي خُلِّد شهداء الطف في الدنيا والآخرة .
مبررات التخاذل :
” ما عسى أن أُغني عنك ” .
” لم أُخلِّف لك ناصراً ” .
” نفسي لم تسمح بالموت ” .
” خذ فرسي ” .
” أنا ضمينٌ لك بعيالاتك ” .
ذرائع وأعذار ..
تحكي ضعفاً وهواناً ..
والتاريخ يعيد نفسه ..
ومواقف التخاذل هي هي ..
والتبريرات هي هي !!
******
المصادر :
إبن الأثير ، علي بن محمد ، ( ت : 630 هج ) ، الكامل في التاريخ ، ج 4 ، حوادث سنة ( 68 ) هجرية ، دار بيروت للطباعة والنشر .
الطبري ، محمد بن جرير ، ( ت : 310 هج ) ، تاريخ الأمم والملوك ، ج 4 ، حوادث سنة 68 هج ، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت .
المفيد ، الشيخ محمد بن محمد النعمان ، ( ت : 413 هج ) الإرشاد ، ج 2 ص 81 – 82 ، تحقيق : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لتحقيق التراث .
ومصادر تاريخية أخرى .