قراءة تحليلية / سمير السعد
شهد العالم بعد الحرب الباردة نظاماً أحادياً تتصدره الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أصبحت القوة المهيمنة على المسرح العالمي. هذا التفرد في السلطة الذي تحكمه واشنطن بسط نفوذه في شتى المجالات الاقتصادية والعسكرية والثقافية. إلا أن هذا النظام الأحادي يواجه اليوم تحديات غير مسبوقة، تتمثل في صعود قوى كبرى مثل روسيا والصين وإيران، التي تطمح لتثبيت نظام عالمي متعدد الأقطاب.
روسيا والصين في طليعة الدول التي تعارض الهيمنة الأمريكية وتعمل على تكوين تحالفات جديدة.
تطلعات إيران لدور إقليمي أقوى في الشرق الأوسط ضد الهيمنة الغربية.
النزاع الأوكراني مثّل صراعًا واضحًا بين روسيا والغرب، حيث ترى روسيا أن توسع الناتو نحو حدودها يشكل تهديداً لأمنها القومي.
إيران تواجه ضغوطاً اقتصادية وسياسية كبيرة من الغرب، إلا أنها تمكنت من تكوين تحالفات قوية مع الصين وروسيا، مما يدعم وجودها في إطار تعددي.
بدأت روسيا والصين وإيران في اتخاذ خطوات للتحرر من النظام الاقتصادي الذي يهيمن عليه الغرب من خلال إنشاء شبكات اقتصادية وتجارية جديدة.
فالعالم لا يزال يعتمد بشكل كبير على الدولار الأمريكي والأنظمة الاقتصادية الغربية، مما يمنح واشنطن نفوذاً قوياً. لكن التحديات المتزايدة والضغوط الاقتصادية المفروضة على الدول الغربية قد تساهم في تسريع تحول النظام العالمي إلى تعددية قطبية.
في هذا السياق، هناك عوامل متعددة تساعد في تعزيز التعددية القطبية وتهديد النظام الأحادي القائم. وفيما يلي أهم هذه العوامل .
"التطور السريع في مجالات التكنولوجيا " خاصة الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية، يعزز من قدرات الدول الصاعدة كالصين وروسيا. فهذه التكنولوجيا قد تمكنها من تحقيق قفزات نوعية في المجالات العسكرية والاقتصادية مما يوازن الكفة مع الغرب.
"المنافسة بين الصين والولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الاتصالات " باتت مثالاً واضحاً على الصراع التكنولوجي، مما قد يجعل القوة التكنولوجية سلاحاً جديداً في التعددية القطبية.
"ظهور تحالفات إقليمية جديدة مثل مجموعة البريكس (BRICS) ومنظمة شانغهاي للتعاون " يمثل تحديًا لهيمنة المؤسسات الدولية التي يسيطر عليها الغرب، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
تسعى هذه التحالفات لخلق أنظمة موازية تساعد الدول النامية على تعزيز استقلاليتها الاقتصادية والسياسية بعيداً عن النفوذ الغربي.
"التحولات في أسواق الطاقة" ، خاصة مع زيادة إنتاج النفط والغاز في روسيا وإيران، دفعت نحو تقليل اعتماد الدول النامية على النفط والغاز المستورد من الغرب.
"سياسة تنويع مصادر الطاقة" ، ومحاولة الغرب تقليل الاعتماد على النفط الروسي بعد الحرب الأوكرانية، أدى إلى تغييرات في أسواق الطاقة العالمية. من جانبها، تسعى روسيا للتوجه نحو أسواق آسيوية مثل الصين والهند، مما يعزز التعددية في أسواق الطاقة.
من المتوقع أن يستمر هذا التصعيد بين القوى الكبرى خلال السنوات القادمة، وقد يشهد العالم تحولاً تدريجياً نحو تعددية قطبية. وإليك بعض النتائج المحتملة التي قد تترتب على هذا التحول ،
قد يؤدي الاتجاه نحو تعددية القطبية إلى ظهور تكتلات اقتصادية متنافسة، مثل قيام تحالفات اقتصادية موازية للغرب تعتمد على عملات مختلفة عن الدولار الأمريكي في التجارة الدولية.
إذا استمرت هذه الدول في تعزيز عملاتها الوطنية وتكثيف التجارة فيما بينها، فقد يؤدي ذلك إلى تراجع الدولار كعملة مهيمنة.
التنافس في المجال العسكري، خاصة بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، يمكن أن يعيد إحياء سباق التسلح الذي شهده العالم خلال الحرب الباردة.
قد تشهد السنوات القادمة زيادة في الإنفاق العسكري وبناء قدرات دفاعية متطورة، مما يخلق مناخًا من التوترات وعدم الاستقرار.
مع تزايد نفوذ التحالفات الاقتصادية مثل "البريكس " قد تتاح فرص جديدة للدول النامية لتحقيق مكاسب اقتصادية خارج الهيمنة الغربية، ما يمكنها من تحقيق قدر أكبر من الاستقلالية.
هذا التوجه قد يؤدي إلى إعادة توزيع القوى، بحيث يكون للدول النامية صوت أقوى في صنع القرارات الدولية.
يبدو أن العالم يسير نحو نظام متنوع الأقطاب بشكل تدريجي، حيث أصبحت الولايات المتحدة تواجه تحديات غير مسبوقة من قوى صاعدة. رغم أن تحول النظام العالمي نحو التعددية القطبية لن يكون سهلاً أو سريعاً، إلا أن المؤشرات الحالية تظهر أن العالم يتجه نحو واقع جديد يضم مراكز قوى متعددة.
لكن يظل السؤال الأهم "هل ستتمكن هذه الدول الصاعدة من بناء نظام عالمي متوازن ومستدام؟ " يبقى هذا السؤال مطروحًا، ومعتمدًا بشكل كبير على قدرة هذه الدول على التنسيق والتعاون بعيدًا عن الانقسامات السياسية، وأيضاً على قدرة الغرب على التكيف مع هذا النظام الجديد.