جاري تحميل ... مدونة المرجل

الاخبار

إعلان في أعلي التدوينة

 

رياض الفرطوسي ||


في مجتمعاتنا التي اعتادت تفسير كل الظواهر بلغة السياسة، غاب عن وعيها الأعمق سؤال أخطر: كيف يُصنع هذا الإنسان الذي ينهش دون أن يشعر، ويبتسم وهو يطعن، ويتسلق بأقنعة من الطهر وهو لا يؤمن بأي فضيلة؟

إننا لا نعيش في عصر الظلم فقط، بل في زمن إنتاج شخصيات لا ترى إلا ذاتها، ولا تفهم العالم إلا عبر الغنيمة، وتحوّل الآخر إلى محطة وقود نفسية، ثم تتابع الطريق.

هذه ليست أزمة سلطة سياسية فقط، بل أزمة وعي حضاري ونفسي غائر.

نحن أمام تحوّل عميق في طبيعة “الإنسان” ذاته، تحوّل لم تصنعه الحروب أو الأنظمة فحسب، بل عقلٌ جمعي تغذى طويلاً على التسطيح، والتدين الشكلي، والتقاليد التي تقدّس الواجهة وتُغفل الجوهر.

فخرج إلينا “إنسان القناع”… أنيق، متعلم، لبق، وربما محبوب — لكنه مفرغ من الداخل، لا يرى الآخر إلا كأداة، ولا يعرف الحب إلا كحيلة.

يقول عالم النفس الكندي روبرت هير في كتابه بلا ضمير: “هؤلاء ليسوا مرضى عابرين، بل شخصيات تسكن المجتمع، وتنجح فيه، وتُعجب بها الناس أحيانًا. لكنهم لا يملكون ضميراً، بل قدرة مذهلة على تقمّص الضمير.”

والمعضلة أننا نُربّي أجيالاً على التمثيل لا الصدق، على المجاملة لا المواجهة، على الكتمان لا الاعتراف، ثم نستغرب ظهور هذه الشخصيات التي ترتدي ألف وجه، وتتقن لعبة المرايا.

في الأصل، الضمير ليس “خياراً أخلاقياً”، بل بُنية بيولوجية — مركز عميق في الدماغ يسمى (المركز العصبي)، هو ما يجعل الإنسان يتألم حين يجرح، ويعتذر حين يُخطئ، ويبكي حين يحب.

لكن حين يولد خللٌ في هذا المركز، يولد معه كائن آخر… لا يشبهنا، وإن بدا كذلك.

كائن يلبس كل قناع يناسب اللحظة، يُتقن دور الضحية والقديس والعاشق والثائر، لكنه في الجوهر فنان خداع لا يتأثر ولا يتردد ولا يشعر بأي ألم حقيقي.

هذه النماذج تظهر في العائلة، في العمل، في الشراكة، وفي الحكم. لكن المشكلة ليست في وجودهم — فالعالم لم يخلُ منهم يوماً — بل في غياب الأدوات المعرفية والثقافية التي تُكشِفهم.

حين يُقصى علم النفس من المدرسة، وتُسخف الفلسفة، ويُحتقر الوعي الذاتي لصالح “المظهر العام”، يصبح المجتمع أرضاً خصبة لنمو هذه الكائنات التي تحيا على طاقتنا، وتُصيبنا بالارتباك قبل أن تختفي كأنها لم تكن.

المسألة ليست “مؤامرة”، بل نظام نفسي مقلوب يكرّر إنتاج أجيال من السايكوباتيين المقنّعين، لأنهم ببساطة صاروا النموذج الأكثر نجاحاً في بيئة لا تكافئ التعاطف بل الذكاء الماكر، ولا تحتفي بالصدق بل باللباقة، ولا تحترم الضعف الإنساني بل ترى فيه عيباً يُخفى.

هذا ما عبّر عنه الفيلسوف الالماني إريك فروم حين كتب عن “المجتمع المريض”، الذي يُفرز الشخصية النرجسية، ويُغذيها، ويصفّق لها، ثم يبكي نتائجها.

في العلاقة العاطفية، كما في المؤسسة، كما في البرلمان، كما في العائلة — يظهر هذا “الانسان الجديد” الذي لا يحبك لشخصك، بل لحاجته إليك.

يُغريك، يُبهرك، يُقنعك بأنك النصف الثاني لحكايته، ثم يختفي… لا لأنه تغيّر، بل لأنك أنهيت وظيفتك.

وفي مجتمعات لا تزال تعيش بعقلية “النية الطيبة” و”إعطاء الفرص”، يكون هؤلاء في أفضل حال.

يتحركون بيننا بحرية، لأننا ببساطة نرفض أن نصدّق أن إنسانًا ما يمكن أن يكون بهذا البرود.

لكن الحقيقة كما قال الفيلسوف الفرنسي البير كامو: “الإنسان بلا ضمير، هو وحش أُطلق بين الناس”.

ولا بد من التكرار: لسنا هنا أمام انحراف أخلاقي فقط، بل أمام عطبٍ في التصور والوعي والبيولوجيا، لا يُعالج بالنوايا الحسنة، بل بفهم جديد للإنسان. فهم لا يبرر الشر، بل يكشف ألياته الخفية، ويفتح أعين الضحايا قبل أن تبتلعهم الأعماق.

ربما نحتاج، نحن الذين لم ندخل بعد عصر العلوم الإنسانية، إلى ثورة من نوع مختلف: ثورة على التفسير البسيط، على جلد الذات، وعلى إدمان التسامح مع الكذب.

فقد آن الأوان أن نخلع القناع… لا عن “الآخر”، بل عن وعينا الذي سُمّم ببطء، حتى فقد القدرة على التمييز.

تعديل المشاركة
Reactions:
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال