كندي الزهيري ||
رغم قِصر عمره الشريف، كانت حياة الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام) مدرسة متكاملة في الحكمة والصبر والقيادة الواعية في أحلك الظروف. لقد عاش الإمام الجواد في بيئة سياسية معقدة، تحت رقابة دولة العباسيين، وتعرض لضغوط هائلة بهدف احتوائه أو إسكاته. لكنه، رغم ذلك، استطاع أن يثبت للإسلام وأتباعه أن القيادة الحقيقية لا تُقاس بالسن، بل بالعلم، والوعي، والربانية.
واليوم، ونحن نعيش في زمن يتشابك فيه الباطل بالحق، وتُفرض على الأمة تحديات فكرية وثقافية وأخلاقية، نجد في سيرة الإمام الجواد (عليه السلام) دروسًا ثمينة، يمكن تلخيص أبرزها فيما يلي:
1. القيادة بالعلم لا بالعمر أو المنصب
تولى الإمام الجواد الإمامة وهو في الثامنة من عمره، مما شكّل صدمة لدى البعض، لكن سرعان ما أثبت قدرته العلمية الفائقة، حتى في مناظراته مع كبار العلماء، مثل مناظرته الشهيرة مع “يحيى بن أكثم”. هذا يعلّمنا اليوم أن الكفاءة، لا الشكل أو السن، هي معيار القيادة الحقيقية، وأن الشباب حين يُمنحون الثقة يمكن أن يتحملوا أعظم المسؤوليات.
2. الثبات في وجه الضغوط السياسية
كان الإمام الجواد تحت رقابة مباشرة من الخليفة العباسي المأمون، ثم المعتصم، ومع ذلك لم ينحرف عن مبادئه، ولم يساوم على قضيته. من هذا نتعلم اليوم ضرورة الصمود أمام الضغوط السياسية والإعلامية مهما كانت، والبقاء أوفياء للحق، حتى وإن بدا الطريق محفوفًا بالمخاطر.
3. الاستثمار في بناء النخبة الواعية
رغم مراقبته، لم يتوقف الإمام عن تعليم أصحابه وتربية جيل من الفقهاء والمحدثين، مما يدل على أهمية العمل التربوي الهادئ في أحلك الظروف. واليوم، نحن بحاجة ماسة إلى الاستثمار في بناء نخب شبابية تمتلك الوعي والبصيرة، لا مجرد أتباع ينجرفون مع التيارات.
4. مواجهة الفساد الناعم بالحكمة
كان الإمام يعيش في وسط بلاط عباسي يحاول اختراقه فكريًا وأخلاقيًا، لكنه واجه هذا الفساد الناعم بلغة العقل والشرع، لا بالصدام الأعمى. هذا يعلمنا اليوم كيف نواجه غزو الأفكار والانحرافات الأخلاقية بالحكمة، والتعليم، والتربية، لا بالعنف أو الانفعال.
5. قيمة الشهادة في سبيل الحق
استُشهد الإمام الجواد وهو في الخامسة والعشرين من عمره، بعد أن ضاق العباسيون ذرعًا بثباته ووعيه. واستشهاده يؤكد أن طريق الإصلاح محفوف بالتضحيات، وأن الحق لا يُنتصر له بالكلام فقط، بل أحيانًا بالدم.
إنّ سيرة الإمام الجواد (عليه السلام) ليست ماضياً يُروى فحسب، بل هي حاضرٌ يُستلهم، ومستقبلٌ يُخطط له. في زمن التزاحم بين الهويات، وتفشي الظلم، وارتباك المفاهيم، نحتاج إلى العودة إلى مدرسة الأئمة، حيث يتجلى الإسلام الأصيل، وحيث تُصاغ معالم النهضة والكرامة. فكل من يحمل هم الأمة، ويريد بناء مجتمع مقاوم واعٍ، لا بد أن يجعل من الإمام الجواد (ع) قدوةً له، في الفكر، والسلوك، والموقف.