آزاد محسن
شهدت العقودُ الأخيرة تحولاتٍ جذرية في موازينِ القوى في الشرق الأوسط وبالأخص في مجال السيطرة الجوية، ويبرزُ ملف الدفاع الجوي العراقيّ والسوريّ كواحدٍ من أبرزِ الأمثلة على ما يصفهُ البعضُ بالتفريغ المُتعمد للأجواء من أي قدرةِ ردعٍٍ سيادية هذا الواقع يطرحُ تساؤلاتٍ عميقة حول الأسباب الحقيقية، وراء عدم تمكين العراق من امتلاك منظومات دفاعِ جويةٍ متقدمة، ومن يقفُ خلف هذا القرار، وما علاقته بالإستراتيجية الصهيوأمريكية تجاه إيران ومِحور المقاومة.
منذ عامِ ألفين وثلاثة، وبعدَ إسقاطِ النظامِ العراقيِّ، أُعيد بناءُ الجيش العراقيِّ وفقَ رؤيةٍ أمريكيةٍ صارمةٍ، استُبعِدَتْ في كثيرٍ من مراحلِها تطوير قُدُراتِ الدفاعِ الجويِّ.
وبرغمِ مرورِ أكثرَ من عقدين، مايزالُ العراقُ يفتقرُ إلى منظوماتٍ متطوِّرةٍ يمكنُها فرضُ سيادةٍ جويَّةٍ حقيقيَّةٍ فوقَ أراضيهِ، وتُعزى هذه الحالةُ إلى قراراتٍ أمريكيَّةٍ واضحةٍ ومباشرةٍ تمنعُ وصولَ أنظمةٍ مثلَ S-300 أو S-400 الروسيَّةِ بحجَّةِ الحفاظِ على التوازنِ الإقليميِّ، أو تحتَ ذرائعَ ترتبطُ بالعقوباتِ، أو عدمِ جاهزيَّةِ الجيشِ العراقيِّ.
في ظلِ غيابِ منظوماتِ ردعٍ فعالة أصبحت الأجواءُ العراقيةُ عملياً، منطقة مفتوحة أمام الطيران الإمريكيّ والإسرائيليّ في حالات معينة لا سيما في سياقِ الصراعِ مع ايرانَ ومحورِ المُقاومة، وهذا ما يجعل من العراق نقطةَ انطلاقٍ آمنة لأي عملياتِ استطلاع أو مراقبة أو حتى استهداف، ومن منظور إستراتيجيّ، فانّ إبقاءَ العراق دونَ حمايةٍ جويةٍ مُتقدمةٍ، هو جزءٌ من رؤيةٍ أوسع لإدامة التفوقِ الجوي الصهيوأمريكي في المنطقة.
عندما سقطت سوريا بالكامل بيد جماعةِ الإخوان المسلمين خلالَ إحدى أخطرِ مراحلِ الحربِ، سارعتْ إسرائيلُ إلى تنفيذِ ضرباتٍ مباشرةٍ ضدَّ منظوماتِ الدفاعِ الجويِّ السوريَّةِ، مستغلَّةً حالةَ الانهيارِ العسكريِّ والسياسيِّ للدولةِ.
كانَ أوَّلُ ما استُهدِفَ هو الدفاعاتُ الجويَّةُ ومراكزُ الرادارِ، بهدفِ شلِّ قدرةِ الدولةِ على فرضِ سيادةٍ جويَّةٍ أو اعتراضِ أيِّ اختراقٍ. وبالفعلِ، نجحتْ إسرائيلُ في إضعافِ تلكَ المنظوماتِ بشكلٍ كبيرٍ، لتفتحَ المجالَ أمامَ طائراتِها للعملِ بحرِّيَّةٍ تامَّة داخلَ الأجواءِ السوريَّةِ، سواءٌ لاستهدافِ البنيةِ التحتيَّةِ، أو مواقع تخصُّ محورَ المقاومةِ.
وبهذا، تحوَّلتِ الأجواءُ السوريَّةُ من مجالٍ سياديٍّ إلى منصَّةٍ مفتوحةٍ للطيرانِ الصهيوأمريكيِّ، في تكرارٍ واضحٍ للنموذجِ الذي يُرادُ ترسيخُهُ في العراقِ، بغضِّ النظرِ عن الفارقِ العقديِّ بينَ العراقِ وسورياَ.
لا يمكن إغفالُ أنّ الصراعَ بين المحورِ الصهيوأمريكيّ من جهةٍ، وإيران ومحورِها المُقاوم من جهةٍ أخرى، ليس فقط صراعاً سياسياً أو جغرافياً، بل يحملُ طابعاً عقائدياً واضحاً تدور حوله كثيرٌ من السياساتِ العُدوانية، وبذلك فإنّ أي قدرةِ ردعٍ بيدِ هذا المحور، كالدفاعاتِ الجويةِ، تُعدُ تهديداً وُجودياً للكيانِ الإسرائيليّ، وبالتالي تستهدفُ بطرقٍ مُباشرة أو غيرِ مباشرة.
إنّ حرمانَ العراقِ من امتلاكِ منظوماتِ دفاعٍ جويّ مُتقدمةٍ، ليس قراراً عشوائياً أو نتيجة ضعفٍ داخليّ فقط، بل هو جزءٌ من إستراتيجيةٍ مدروسةٍ تهدفُ إلى ابقاء المجالِ الجويّ العراقيّ مفتوحاً أمام أي تحركٍ صهيوأمريكيّ في المنطقة، كما أنّ ما جرى في سوريا، هو تطبيقٌ عمليٌ لهذه الفلسفةِ العسكرية التي تسعى لتحييدِ الردعِ الجوي، كمرحلة اولى في أي مشروع هيمنة إقليمي وهذا يضعُ أمام صانعِ القرارِ العراقيّ، تحدياً وجودياً أما الرضوخُ لاستمرار الهيمنة، أو السعي لتغييرِ قواعدِ اللعبةِ عبرَ التحالفاتِ والتوازناتِ الجديدة.