أمين السكافي
عاملة. جبل عامل… تلك الرقعة الخضراء على خريطة الجنوب اللبناني، ليس مجرد جغرافيا بل تاريخ حيّ وذاكرة متقدة. هناك حيث يلتقي البحر بالبرّ، وحيث الزيتون والتبغ والتين، نشأ مجتمع صاغته الأرض بقدر ما صاغته المواقف، حتى صار يُعرف باسم “العامليين”؛ أبناء جبل عامل الذين حملوا على عاتقهم همّ الدين والعلم والمقاومة.
من أين أتوا ومن هم؟
ينحدر العامليون من قبائل عربية هاجرت من اليمن والحجاز والعراق إلى جنوب لبنان عبر العصور، واستقرت في تلك الجبال والسهول المحيطة. مع الفتح الإسلامي، تعرّفوا على الإسلام ومالوا باكراً إلى مدرسة أهل البيت (ع)، فكانوا من أوائل حواضن التشيّع في المشرق. هذه الجذور العربية الممزوجة بالهوية الإسلامية شكّلت أساس شخصيتهم، وجعلتهم مرتبطين عاطفياً وعقائدياً بفكرة العدل والولاء للحق.
ثقافتهم وأدبياتهم
الثقافة العاملية ارتكزت على ثلاثية أساسية: الدين، العلم، والأرض.
• الدين: شكّل الإطار الذي جمعهم، ومنه انطلقت مدارسهم الفقهية والعقائدية.
• العلم: جبل عامل كان مهدًا للمدارس الدينية التي خرّجت كبار العلماء الذين أثروا الفكر الشيعي في العالم.
• الأرض: الزراعة والتشبث بالتراب الجنوبي جعلت من العامليين نموذجاً للارتباط بالوطن.
في الأدب، أنتج العامليون شعراء وخطباء جمعوا بين الحماسة الدينية والوجدانية الوطنية. لغتهم الشعرية مشبعة بالصور المستمدة من القرى والحقول والجبال، لكنها أيضًا تحمل حرارة الموقف المقاوم.
أبرز العلماء والمفكرين
لا يمكن الحديث عن جبل عامل دون ذكر رموزه العلمية:
• الشهيد الأول محمد بن مكي الجزيني (القرن 14): من أعلام الفقه الشيعي، عُرف بعمق علمه وجرأته الفكرية، استشهد في دمشق بسبب انتمائه.
• الشهيد الثاني زين الدين الجبعي (القرن 16): عالم موسوعي، صاحب مصنفات مهمة في الفقه والحديث، اغتيل غدراً، فصار رمزاً للشهادة في سبيل الفكر.
• الشيخ بهاء الدين العاملي (البهائي): فيلسوف، فقيه، ومهندس معماري، ترك بصمة علمية في العالم الإسلامي، وهو الذي خطّط لمعالم عمرانية في أصفهان.
وفي العصر الحديث:
• السيد محسن الأمين: رائد الإصلاح الديني والفكري في مطلع القرن العشرين، مؤلف “أعيان الشيعة”.
• السيد عبد الحسين شرف الدين: من أبرز رجال الفكر والوحدة الإسلامية، صاحب “المراجعات” و”أجوبة مسائل جار الله”.
• الإمام موسى الصدر: رجل الدين والمفكر الذي أعاد للجنوب مكانته وكرامته، وربط بين الإيمان والعمل الاجتماعي والسياسي.
• السيد حسن نصرالله: الذي قاد المقاومة الحديثة ضد الاحتلال الإسرائيلي، جامعاً بين البُعد الديني والسياسي والعسكري.
المثقفون والمقاومون
العامليون لم يكونوا فقط علماء دين، بل أيضًا مثقفين ومقاومين. فمن جبل عامل خرج شعراء وأدباء حملوا همّ القضية الفلسطينية وهمّ الجنوب معًا. وكان أبناء القرى العامليّة من أوائل من حملوا السلاح ضد الاحتلال العثماني، ثم الفرنسي، وصولاً إلى مقاومة العدو الإسرائيلي.
المقاومة في جبل عامل ليست خيارًا طارئًا، بل امتداد لروحٍ آمنت بأن الأرض لا تُصان إلا بالدم والعلم معًا. ومن هنا ارتبطت هوية العامليين بالمقاومة: مقاومة التجهيل بالعلم، ومقاومة الاحتلال بالبندقية، ومقاومة التفرقة بالوحدة.
بما يؤمنون
إيمان العامليين يتجذر في عقيدتهم الإسلامية الشيعية، لكنه يتجاوز الطقوس ليصبح منظومة قيم:
• الإيمان بالعدل: انحياز دائم للمظلومين.
• الإيمان بالعلم: طلب المعرفة عبادة.
• الإيمان بالأرض: التمسك بالوطن كجزء من العقيدة.
• الإيمان بالشهادة: باعتبارها ذروة الإخلاص لله والوطن.
وجدان جبل عامل
أن تكون عامليًا هو أن تحمل روحًا مزدوجة: روح الفقيه وروح الفلاح. الأولى تزرع الفكر، والثانية تزرع الأرض، وكلاهما يصبّ في نهر واحد هو التضحية. العاملي إذا كتب، كتب بمداد القلب، وإذا قاتل، قاتل بعقيدة، وإذا صلّى، صلّى وكأن صلاته خندق من خنادق الجهاد.
جبل عامل اليوم ليس مجرد منطقة في جنوب لبنان؛ إنه رمز. رمز لعلاقة الإنسان بأرضه، ولعلاقة الإيمان بالفعل، ولإصرار شعب صغير أن يترك أثرًا كبيرًا في تاريخ المنطقة. فمنذ قرون والعامليون يردّدون بصوت العلم والمقاومة: نحن هنا، لا تغيبنا الحروب، ولا تكسرنا الجبال، بل نحن الذين نصنع من الجبل هويّة ومن العامل رسالة.
