كوثر العزاوي ||
حينما يكون البيت محرابًا، لصناعة العظَمة، يحِقُّ للخلود أن يسجلّ في صفحاته عناوينَ لنساءٍ عظيمات، لم يتقدّمْن الصفوف، ولمْ يُرَ لهنّ ظلّ، ومن خلف ستار الحياة، صنعنَ النور في مدرسة الطهر، ليتخرَّج من بين أسوارها رجالٌ عظماء، حملوا رايات العلم والفضل والشرف.
ليؤكّد الواقع حقيقة: أنّ بناء العقول والقلوب، أسمى من بناء القصور والواجهات، وأنّ التربية هي روحٌ تُغرَس في عمق الخلود، فتثمر عطاءً منقطع النظير، وأنّ العظمة تصنعها نساء، رسمنَ من خلف الأستار ملامح الدين، ليجعلن منه حرزًا على أعضاد رِجالها، فيُصبح وجودهم من وجودها، ناطقًا بالعزّ والثبات، وحضورهنّ الخفيّ، أيقونةً للقيم، حملته هامات رجال علماء قادة ، إذ صاروا جسرًا إلى الأجيال اللاحقة، حينما رسّخوا بالمواقف والأفعال مبادئ الأسلام الأصيل.
فكما هناك رجالُ ظلّ، هناك نساء ظلّ، يربّين بصمت يشبهُ القداسة، لا تُعرَف أسمائهنّ، ولكن أثرهنّ عميق يتجلّى ناصعًا في ميادين الحياة.
ولكَ أن تتأمّل سيرة أمّهات وزوجات علماء، وقادة عظماء، وكيف صنعنَ قادةً إلهيّين، وطلبة علوم في بيوت الفضيلة والعفاف، بيوت يُذكَر فيها اسم الله كثيرا، على موائد الزهد وشظف العيش، متقلّدات الرضا لأجل تكليفهنّ، متّشحات برداء الثبات على نهج الأجداد، عاكفات في خدمة مَن حملوا أعباء المذهب على أكتافهم، ففاضوا عطاءً يخدم الدين والمجتمع ويصون إنسانيتهم، حتى امتد صبرهنّ دون جزع الى يوم رحيلهنّ حيث الراحة الأبدية.
إنّ المرأة، “أمٌّ كانت أو زوجة” وكل زوجات العظماء أمّهات، وإن بقيت خلف الستار، تظلّ مصدر إشعاع، وأثرها أعمق في الواقع، وأوضح من أن يُخفى، إذ يسطعُ بريقهُ في مقامٍ ربّانيّ، مرجعًا أعلى، يفيض على الأمة الإسلامية عِلمًا، ويثبّت أعمدة الدّين بالحكمة والإرشاد، ولعلّ السيدة الجليلة عقيلة سماحة المرجع الأعلى السيد عليّ السيستاني”أدام الله ظله” خيرَ مصداق في المرحلة،
وتلك امرأة الظلّ التي لم يخفى شعاعها، فكانت لمقام المرجعية العليا ركنًا وسندًا، ورفيقة درب، وخير عون لعمرٍ طويل، وأمٌّ لسيدَيْن عالِمَين وَرِعَين، قد تجلّى بجبينَيْهما شعاع العلم والتقوى، وحبّ الخير للناس، كأنّ سماتَ أجدادهم المعصومين”عليهم السلام” تنطق عنهما بالفضل والإيمان.
وها هي اليوم تودّع الدنيا بهدوء، بعد أن انتهى تكليفها، وانطوت صفحة خدمتها جيلٍ من سلالة السادة الهاشميين لعقود عديدة، وكأنّها تسلّم الأمانة إلى السماء، وتغادر محمولة على أكتاف الأوفياء طائفين بها مابين أضرحة أجدادها بهيبة وجلال.
فقد رحلت وبقيت آثارها تحكي عنها بلسان رجالها، ومواقفهم وسيرتهم التي تعكس حُسن تربيتها، وتشهد لها بالفضل والعرفان.
سلام لروحها الطاهرة، رحمها الله وحشرها مع جدّتها الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء “عليها السلام”، وألهَم ذويها الصبر والسلوان، إنا لله وإنا اليه راجعون.
