قاسم الغراوي ||
منذ كتابة الدستور العراقي لعام 2005 في مرحلة ما بعد الاحتلال الأمريكي، تشكلت بنية الدولة على أسس جديدة حملت في طياتها بذور الانقسام أكثر مما حملت روح الوحدة الوطنية. فالدستور، وهو الوثيقة العليا التي يفترض أن تُجسد الإرادة العامة للشعب، جاء نتيجة تسويات سياسية أكثر من كونه تعبيرًا عن عقد اجتماعي وطني شامل. هذه التسويات أسست لمنظور “المكوناتية” بديلًا عن مفهوم “المواطنة”، مما جعل الهوية الوطنية عرضة للتآكل أمام تعدد الهويات الفرعية.
أولًا: المكوناتية في النص الدستوري
وردت في الدستور عبارات تؤكد على تمثيل “المكونات العراقية” في مؤسسات الدولة، كما في المادة (9) المتعلقة بالقوات المسلحة، والمادة (12) الخاصة بالرموز الوطنية، والمادة (125) بشأن ضمان الحقوق الإدارية والسياسية والثقافية للمكونات.
لكن هذه النصوص، بدل أن تُعزز مبدأ المساواة، فتحت الباب لتفسير الدولة بوصفها تحالف مكونات لا مواطنين، أي أن الانتماء الطائفي أو القومي أصبح هو الأساس في التوزيع السياسي والوظيفي، وليس الكفاءة والانتماء للوطن.
ثانيًا: تعدد الهويات مقابل تراجع الهوية الوطنية
العراق بلد غني بالتنوع القومي والديني والمذهبي، وهذه ميزة حضارية لو أُديرت بعقلية وطنية. إلا أن سوء إدارة هذا التنوع، في ظل نظام محاصصي، جعل الهويات الفرعية تطغى على الهوية الجامعة. فالكردي يرى نفسه كرديًا قبل أن يكون عراقيًا، والشيعي والسني يخوضان معارك الانتماء الطائفي قبل الالتقاء في مفهوم الدولة.
أصبحت الوطنية مفهومًا رمزيًا أكثر من كونها ممارسة سياسية أو شعورًا جمعيًا، والنتيجة هي دولة “متعددة الولاءات” لا تمتلك هوية سياسية متماسكة.
ثالثًا: تشويه مفهوم المواطنة
حين تُقسم المناصب على أساس الانتماء، وحين يُعامل المواطن وفق طائفته أو قوميته، يفقد الدستور جوهر العدالة الذي يجب أن يُحقق المساواة أمام القانون. المواطنة ليست نصًا يُكتب بل سلوك مؤسساتي ومجتمعي يضمن الحقوق والواجبات على قدم المساواة.
وبهذا الشكل، تم تشويه مفهوم المواطنة في العراق ليصبح مرادفًا للانتماء إلى كتلة أو مكون، لا إلى الدولة نفسها.
رابعًا: النتائج السياسية والاجتماعية
•انقسام المجتمع: تعمق الخطاب الطائفي والجهوي على حساب الانتماء الوطني.
•شلل مؤسسات الدولة: توزيع المناصب على أسس مكوناتية أدى إلى تضارب في الولاءات وتعدد مراكز القرار.
•الفساد والمحاصصة: أصبحت الهوية السياسية أداة لتقاسم السلطة والثروة بدلًا من إدارة الدولة.
•ضعف الوعي الوطني: غياب التعليم الوطني والإعلام الموحِّد فاقم الشعور بالانفصال بين المواطن والدولة.
خامسًا: نحو إعادة بناء الهوية الوطنية
يتطلب إصلاح هذا الخلل إعادة النظر في فلسفة الدستور نفسه. فلا بد من:
1.مراجعة النصوص التي تُكرس المكوناتية واستبدالها بمبادئ المواطنة والمساواة.
2.بناء نظام انتخابي وطني يقوم على البرامج لا الهويات الفرعية.
3.تبني خطاب إعلامي وتربوي موحد يعزز الانتماء الوطني المشترك.
4.تحصين الوعي الجمعي من الاستقطاب الخارجي، الذي يغذي الانقسام الداخلي.
5.إطلاق مشروع وطني جامع يوازن بين الاعتراف بالتنوع والتمسك بالوحدة.
إن المكوناتية ليست ضمانة للتنوع، بل قيد على تطور الدولة الحديثة. فحين تتعدد الهويات دون وجود هوية وطنية جامعة، تتحول الدولة إلى ساحة تنازع.
ولذلك فإن مستقبل العراق مرهون بقدرته على الانتقال من “دولة المكونات” إلى “دولة المواطنة”، ومن “هويات متنازعة” إلى “هوية عراقية جامعة” تُعيد للوطن معناه وللدولة هيبتها.
