طه حسن الأركوازي ||
في كُل حقبة من التحولات السياسية والاجتماعية ، تبرز فئة لا تؤمن إلا بلغة المكاسب ، ولا تتقن سوى فنون الالتواء والمراوغة ، أولئك هم “الانتهازيون” الذين يتقنون لعبة تبديل الأقنعة حسب أتجاه الريح ، لا يملكون مبدأً ، ولا ينتمون لفكرة ، بل يقتاتون على ضعف الآخرين ، ويتسلقون على أكتافهم كما يتسلق الطفيلي على جسد حي يستنزفه حتى الهلاك .
في العراق اليوم وعلى أعتاب الانتخابات تتكاثر هذه النماذج كما يتكاثر العفن في بيئة الفساد محتميةً بالأحزاب التي تحتضنها وتمنحها الشرعية لأنها ببساطة تعكس صورتها وتشبهها في الانتهازية والانتهاك .
فالانتهازية ليست وليدة عصر ، لكنها في زمننا صارت ثقافة مُتجذرة في الوعي الجمعي ، تُدرس في مدارس السياسة ، والإعلام ، والمصالح ، لا بأعتبارها إنحرافاً أخلاقياً بل “دهاءً” و”حكمة” و”براعة في إقتناص الفرص” .؟
لقد أتقن الانتهازيون لعبة التلون تحت عناوين براقة كالإصلاح والنزاهة والوطنية ، فتسللوا إلى مواقع القرار مُستغلين عطش الناس للتغيير ، لكن ما إن تمكنوا من السلطة حتى تنكروا لمن صنع مجدهم ، وأسقطوا أقنعتهم ليظهر وجههم الحقيقي ، وجه المصلحة الذي لا يرى في الوطن سوى سلّمٍ للصعود ثم الهروب ، كما قال الشاعر :
أعُلمه الرماية كل يومٍ – فلمّا إشتدّ ساعدهُ رماني .؟
هؤلاء يتقنون فن التملق والمداهنة ( اللوگه ) ، ويملكون قدرة هائلة على مُحاكاة مشاعر الآخرين وأستغلالها ، سواء كانت عاطفة أو طموحاً أو حتى ضعفاً ، يدخلون من أبواب الصداقة والولاء ، ويتسللون غلسة إلى مراكز القرار ، ثم يتحولون إلى خناجر مغروسة في خاصرة من وثق بهم .؟
لا يؤمنون بالوفاء ، ولا يعترفون بالجميل ، فكُل من يقف أمام مصلحتهم يصبح خصماً ، وكل من يُحاول كشف زيفهم أو فضحهم يتحول إلى عدواً لابد من تصفيته معنوياً أو سياسياً .؟
وفي المشهد العراقي الراهن لا تكاد تخلو أي قائمة أنتخابية أو تكتل حزبي من هذه النماذج التي تلوّنت بكل الألوان ، وتبدّلت بكُل الاتجاهات ، حتى غدت وجوهاً مألوفة في كل موسم أنتخابي ، ترفع شعار التغيير وهي أول من يُعطله ، وتعد بالإصلاح وهي رأس الفساد ، تتحدث عن الوطن كمن يتحدث عن غنيمة جديدة تنتظر القسمة ، إنهم أولئك الذين يبيعون أنتماءهم في سوق المناصب ، ويشترون ولاءهم بثمن بخس من الوعود والمصالح .
الانتهازية السياسية ، كما يصفها علماء الاجتماع ليست مجرد سلوك فردي ، بل ظاهرة بنيوية تنمو حين يضعف الضمير الجمعي ، وحين تتراجع القيم لصالح المصالح ، وحين يختلط الدين بالسلطة ، والمال بالقرار ، والمبدأ بالمنصب ، وهي اليوم في التجربة العراقية ، لم تعد أستثناءاً بل تحوّلت إلى قاعدة حتى باتت بعض الأحزاب تحتفي بأصحاب الوجوه المُتبدلة وتمنحهم مواقع القرار ، لأنها ترى فيهم أدوات مُطيعة يمكن أستخدامها متى شاءت وبأي شكل ، والتخلص منها متى أنتهت صلاحيتها .
والأخطر من ذلك أن المجتمع الذي أنهكته خيبات السنين بدأ يتقبل هذا النموذج ويتعايش معه ، حتى غدت الانتهازية “ذكاءاً سياسياً”، والغدر “مرونة”، والنفاق “حكمة واقعية” ، وهنا تكمن الكارثة حين يتحول المرض إلى قاعدة ، والفساد إلى عرف ، والانتهازية إلى ثقافة عامة تُسوق بلباس الوطنية والنزاهة .
لقد أثبتت التجارب أن فترات الاضطراب والتحولات الكبرى ، كحال العراق منذ عام 2003 ، أصبحت تربة خصبة لأزدهار الانتهازيين ، لأن القيم القديمة تفقد بريقها ، والجديدة لم تترسخ بعد ، فينشأ الفراغ الذي يملؤه أولئك الطفيليون الذين يعرفون كيف يستثمرون الفوضى لمصالحهم الخاصة ، فهم يتحدثون :
بأسم الدولة حين تكون الدولة ضعيفة .؟
وبأسم الشعب حين يكون الشعب غائباً .؟
وبأسم الإصلاح حين يكون الفساد أقوى من القانون نفسه .؟
ونحن على مشارف الانتخابات ، تعود الوجوه ذاتها لتتصدر المشهد ، بعد أن تُعيد طلاء صورتها وتبدّل شعاراتها كما يبدّل التاجر واجهة متجره قبيل موسم البيع .؟
تجدهم يجوبون المدن ويملأون الشاشات بوعودٍ منمقة عن الإصلاح والإعمار والخدمات ، وكأنهم لم يكونوا جزءاً من الخراب الذي يحاولون التبرؤ منه اليوم ، يعرفون كيف يخاطبون وجدان الناس ، وكيف يبيعون الأمل بأغلفة براقة ، بينما في حقيقتهم لا يسعون إلا لتجديد مواقعهم في السلطة وصفقاتهم في الظل ،
والأحزاب التي تحتضنهم تدرك حقيقتهم جيداً ، لكنها تُبقي عليهم لأنهم النموذج الأمثل للولاء القابل للبيع والشراء ، والأداة الأنسب للمناورة وتبديل المواقف عند الحاجة ، وهكذا تستمر الدائرة ، حين تُكافأ الانتهازية ويُقصى الصادقون ، في بلدٍ ما زال يدفع ثمن ثقته بمن أحترفوا التجارة بالمبادئ .؟
الخطر اليوم لا يكمن في الانتهازيين وحدهم ، بل في البيئة التي تبرر وجودهم وتمنحهم الشرعية ، في النظام الذي يكافئهم بدلاً من محاسبتهم وفي الشعب الذي يمنحهم صوته رغم خياناتهم المتكررة ، وكما قال “جورج أورويل”:
“الشعب الذي ينتخب الفاسدين والانتهازيين والمحتالين والخونة ، لا يُعتبر ضحية ، بل شريكاً في الجريمة”.؟
أخيراً وليس آخراً .. لعلّ الرسالة الأهم لطه حسناليوم ، ونحن على بعد أيام من الانتخابات ، أن العراق لا يحتمل مزيداً من الأقنعة ، فالمناصب تزول ، والسلطة تتبدل ، لكن الخيانة تبقى وصمة في التاريخ لا يمحوها الزمن ، وعلى القوى الوطنية الصادقة أن تُراجع حساباتها وألا تحتضن من أعتاد بيع المواقف ، وتبديل الولاءات ، لأن من خان غيره اليوم ، سيخونها غداً حين تتغير الموازين ، فالوطن لا يُبنى على أكتاف الانتهازيين ، بل على أكتاف من صدقوا الوعد وحملوا الأمانة …!
