الغيبوبة لا تعرف الشجاعة.. لكن جعفر العبودي عرفها
علي الحاج
تسعة ايام كاملة، كانت ام جعفر تعيش الحداد بصمت، لم ترتد السواد، لم تستقبل معزين، لان قلبها كان حائرا هل رحل ابنها، السبب بسيط… الهاتف لم يرن، ولم يخبرها كما كان سابقا "يمة مجروح بس الإصابة بسيطة"، في كل مرة كان جعفر حين يصاب في المعركة، كان يتصل، حتى وهو ينزف، حتى وهو محمول على نقالة، كان يجد وقتا ليقول لها قبل ان يخبرها غيره وتصدم "يمه اني زين… جرح بسيط لا يظل بالج".
لكن هذه المرة، لا صوت، والامهات يعرفن القلق والصمت لا يكون مصادفة، قالت بصوت مكسور حين اخبروها: "جعفر شهيد… لو عايش جان خابر مثل كل مرة".
وفي مكان اخر، بعيد عن قلبها القلق، كان جعفر حيا… لكنه كان قد دخل معركة لا تشبه اي معركة خاضها من قبل..
جعفر العبودي، من مواليد بغداد 1987، متزوج واب لستة أولاد، رجل لم يعرف الاستقرار منذ عام 2004، المعارك والجبهات كانت عنوان عمره، والساتر صار بيته الثاني.
شارك في اغلب معارك الدفاع ضد الاحتلال، ثم في كل معارك الدفاع عن مرقد السيدة زينب "عليها السلام" ومعارك تحرير العراق من عصابات داعش الارهابية.
لم يكن مقاتل واجب عابر، بل امر قوة في أكثر من محور، يعرف الارض كما يعرف خطوط كفه.
من بلد الى جرف النصر، ومن يثرب الى المقدادية، ومن البوعجيل الى شمال سامراء وتكريت وبيجي، ثم الخالدية ونينوى… عشر معارك كبرى، وفي كل مدينة ترك جعفر شيئا من جسده، وترك اكثر من ذلك من قلبه، اصيب للمرة الاولى عام 2006، ثم ثانية عام 2013 في سوريا، وثالثة عام 2015 في بيجي، والرابعة في الخالدية، كان يعرف الالم، ويتعامل معه كجزء من الطريق، لكن الاصابة الرابعة… كانت مختلفة.
عام 2017، في تل زلط بنينوى، انفجرت الشظايا كما لو انها قررت ان تنهي الرحلة، شظايا مزقت ساقه ويده اليمنى، واحدة منها اصابت هاتفه المحمول مباشرة.
سقط الهاتف…
وسقط معه الرابط الوحيد الذي كان يطمئن امه، منذ تلك اللحظة، بدأت الايام التسعة، دخل جعفر في غيبوبة كاملة، جسده كان هناك، لكن وعيه كان في مكان اخر.
الاجهزة تراقب المؤشرات، والاطباء يتهامسون، والام تراقب السماء.
لا أحد كان يملك اجابة حاسمة: هل يعود؟، ام يكتفي بانه اقترب كثيرا من الشهادة ثم توقف؟
تسعة ايام… هي ذاتها الايام التي كانت امه فيها على يقين انه شهيد، ولكن حين افاق جعفر، لم يكن مشهدا عاديا.
لم يسأل عن الألم اوعن يده وساقه، فتح عينيه بهدوء غريب، نظر الى من حوله، وقال كلاما اذهل الجميع، لم يكن حديث مصاب، ولا كلام رجل خرج توا من عملية، كان يتحدث عن الغيبوبة… كما لو انها رحلة.
ثم سكت فجأة، وقال بهدوء: "هاي سالفة ثانية… نحچيها بعدين"، وسكت.
بأمر مباشر من المعاون الجهادي، نقل جعفر للعلاج، وبدات رحلة طويلة استمرت قرابة عام كامل بين العراق وايران ولبنان، عمليات، اعادة تاهيل، محاولات وقوف جديدة، عام كامل من الصبر.
جعفر لا يعد اصدقاءه بالأرقام، لكن رفاقه يقولون ان قرابة عشرة من اقرب اصدقائه استشهدوا، وعدد من الجرحى سقطوا امام عينيه، ارقام ثقيلة، لكنها لم تسرق منه انسانيته، ولم تسرق ضحكته وطرافته الفريد.
كان ولا يزال ذلك الشاب المرح، الذي يسبق ضحكه وجعه، في أقسى اللحظات، كانت النكتة حاضرة، وكانت الابتسامة تسبق الدمعة.
والده، الذي تعب من الخوف عليه، قال يوما لرفاقه وهو يراه مثقلا بالجراح: "يعني ما ترتاحون الا تجيبوه شهيد؟"، جعفر سمع الجملة…ولم يتوقف، لم يكن يبحث عن الموت، لكنه لم يساوم على الواجب، حتى مع ابيه، كان يعرف ان التراجع يعني ان يدفع غيره الثمن.
جعفر لم يشيع.. لم ترفع صورته على الجدران.. لم تكتب سيرته على لافتة، لكنه في كل خطوة متعبة، وفي كل وجع يعود فجأة، يعرف انه دفع من جسده ما يكفي ليكون شاهدا.
هو لم يمت… لكنه عاش الشهادة أكثر من مرة، ولهذا، حين نكتب عنه، لا نقول جريح فقط.
نقولها بهدوء واحترام: انه واحد من العائدين من حافة الشهادة.
