جاري تحميل ... مدونة المرجل

الاخبار

إعلان في أعلي التدوينة

الصفحة الرئيسية غير مصنف مجموعة قصص قصيرة بعنوان صلاة الليل.. القصة الأولى.. الركعة الأولى..!

مجموعة قصص قصيرة بعنوان صلاة الليل.. القصة الأولى.. الركعة الأولى..!

حجم الخط

 


جليل هاشم البكاء ||


كانت الساحة ساكنة إلا من صوته، يتردد خافتًا بين الجدران العتيقة، كأن الليل نفسه ينصت لآياته. المصابيح الصفراء المعلقة على أطراف المسجد تنثر ضوءًا شحيحًا، لا يكشف الأشياء كاملة ولا يتركها غارقة في الظلام، حالة بين بين، تشبه تمامًا ما يشعر به وهو قائم في صلاة الليل.

أنهى ركعته الأولى ببطء، أطال السجود حتى شعر بأن الأرض تسحبه إليها، كأنها تطالبه أن يبقى، أن يبوح، أن يخفف عنها وعن نفسه ثقل ما حملته طوال النهار. حين رفع رأسه، لم يتجه إلى القبلة فورًا، بل انزلق بصره إلى أطراف الساحة، حيث تنتظم القبور في صمتٍ يشبه الصبر.

قام متكئًا على ركبتيه، وخطا خطوات قليلة بين القبور. لم يكن يخشى الموتى، كان يخشى الحكايات التي لم تُروَ بعد. توقف عند قبرٍ صغير، شاهدُه من حجرٍ بسيط، لا زخرفة فيه ولا دعاء محفور على أطرافه. اقترب أكثر، مسح الغبار بيده، وقرأ الاسم.

اسمٌ عادي. لا يثير دهشة ولا حزنًا ولا رهبة. لا تاريخ ميلاد، ولا تاريخ وفاة. مجرد اسم، وكأنه قُطع من جملة طويلة وبُتر معناها.

شعر بانقباضٍ غريب. قال في نفسه: كيف يمكن لإنسان أن يُختصر إلى اسم فقط؟

جلس قرب القبر، وأسند ظهره إلى جذع نخلة يابسة كانت مغروسة عند طرف الساحة منذ زمن لا يذكره أحد. أغمض عينيه، وترك لخياله أن يقوم بما تعجز عنه الشواهد.

تخيله رجلًا لا يختلف عن غيره. لم يكن فاسدًا مشهورًا ولا صالحًا يُشار إليه بالبنان. استيقظ في صباحات كثيرة، ذهب إلى عمله، عاد، أكل، نام. عاش كما يعيش معظم الناس، على الهامش، بلا صراخ ولا أثر. لم يظلم أحدًا ظلمًا فادحًا، ولم ينقذ أحدًا من هلاك. كان يؤجل الخير بحجة أن الوقت لم يحن، ويؤجل الشر لأنه لا يحب المشاكل.

حين كان يرى مظلومًا، كان يقول في نفسه: ما شأني أنا؟

وحين كان يسمع عن عملٍ صالح، كان يردّ: سأفعل مثله حين أستقر أكثر.

وحين كانت تمر به فرصة ليقول كلمة حق، كان يزنها بميزان السلامة لا بميزان الصدق.

كبر وهو يظن أن الحياد حكمة، وأن السلامة نجاة. لم يدرك أن الحياد أحيانًا شكل آخر من أشكال الغياب.

تخيله أبًا عاديًا، لم يكن قاسيًا، لكنه لم يكن حاضرًا. أولاده يعرفون شكله أكثر مما يعرفون صوته. زوجته لم تشكُ منه يومًا، لكنها أيضًا لم تتكئ عليه حين انهارت. كان موجودًا بالجسد، غائبًا بالفعل، كأن حياته مؤجلة لحظة بلحظة.

وجاءه الموت كما يأتي لمن لا ينتبهون. لم يصرخ، لم يوصِ، لم يترك رسالة. رحل بهدوء يشبه حياته. شيّعه نفر قليل، قالوا: كان طيبًا. كلمة تُقال عادة حين لا يُعرف ماذا يُقال.

دُفن هنا، في هذا المكان، ووضعوا اسمه على الحجر. لم يسأل أحد: ماذا فعل؟ ماذا ترك؟ من تغيّر بسببه؟

فتح الرجل عينيه، وحدّق طويلًا في القبر. أحس بثقلٍ في صدره أشد من ثقل الذنوب الصريحة. قال في سره: ليت له خطيئة واضحة… ليت له حسنة واضحة… أي شيء يثبت أنه كان هنا حقًا.

عاد إلى مكان صلاته. وقف من جديد، رفع يديه، وكبّر. لكن صوته هذه المرة لم يكن كما قبل. في قراءته ارتجاف خفيف، وفي ركوعه انكسار لم يعتده. حين سجد، لم يسأل المغفرة من ذنبٍ بعينه، بل سأل الله ألا يكون اسمًا بلا أثر، ولا عمرًا بلا معنى، ولا قبرًا يُقرأ فلا يُحكى بعده شيء.

وعندما نهض للركعة التالية، كان يشعر أن صلاة الليل لم تعد عبادة صامتة، بل محاكمة مفتوحة، وأن القبر الأول لم يكن قصة ميت… بل تحذير حيّ.

تعديل المشاركة
Reactions:
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال