السيد بلال وهبي ـ لبنان ||
📢 رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “لَوْ عَقَلَ الْمَرْءُ عَقْلَهُ لَأَحْرَزَ سِرَّهُ مِمَّنْ أَفْشاهُ إِلَيْهِ وَلَمْ يُطْلِعْ أَحَداً عَلَيْهِ”
العاقل هو الذي يحفظ سِرَّه، أياً يكن هذا السِّر، عظيماً أو عادياً، شخصياً أم مرتبطاً بالغير، والإنسان في الأعم الأغلب يضل السِّرُّ متقلقلاً في نفسه لا يحبذِّ الاستقرار فيها وحدها، لذلك تراه ينحو إلى إفشائه إلى الغير، والإنسان كائن اجتماعي بطبعه، يميل إلى مشاركة مشاعره وأفكاره مع الآخرين،
وقد يحمله على ذلك أيضا حُبُّ الظهور، والتبَجَّح بالمعرفة أمامهم، وقد يدعوه الإفراط في الثقة بالآخرين إلى الانبساط لهم فيكشف لهم عمّا يعرف من أسرار معتقدا أنها وقعت في حرز حريز، غافلاً عن أنه إذا كان هو لم يحفظ سِرَّه فكيف سيحفظه غيره، وغافلاً أيضاً عن أن إفشائه لِسِرِّه الخاص يترك تداعيات سلبية على مجمل حياته، إن من حيث نظرة الآخرين إليه، أو من انكشافه أمام من يجب أن يكون حاله خافياً عنهم، أو من حيث إعاقة خططه وبرامجه وإخفاقه في تحقيق أهدافه، ناهيك عن الأضرار الهائلة التي تترتب على إذاعة سِرِّ الآخرين أفراداً أو جماعة أو وطَناً.
إن الذي يُفشي سِرَّه أو أسرار الآخرين يفقد ثقته بهم مما يؤثِّر على علاقاته الاجتماعية، ويُعَرِّضه إلى خطر الاستغلال من قبلهم، حيث يمكن لهم أن يستخدموا المعلومات التي أفشاها ضده لتحقيق مصالحهم، فضلاً هوانه على الناس، والتسبَّب بالإهانة لمن أفشى أسرارهم مِمَّا يخلق مشاكل اجتماعية أو خلافات يصعب حلها.
هذا إذا كان السِّرُّ شخصياً، أي سِرّه أو سِرُّ شخص آخر، أما إذا كان السِّرُّ له علاقة بالمؤسسة أو الجماعة أو الدولة فمن المؤكد أن عواقبه ستكون أشَدُّ وخامة وخطورة.
لذلك لا نجد شركة أو مؤسسة أو جماعة، أو حزباً، أو دولة، إلا وتشَدِّد على حُفظ الأسرار وتسُنُّ الدول ومؤسساتها -الأمنية والسياسية والاقتصادية وحتى العلمية- قوانين صارمة تهدف إلى حفظ أسرارها، وكلما كانت الأسرار مُصَنَّفة بالخطورة كان اختيار الأفراد الذي يمكن أن يطَّلعوا عليها دقيقاً للغاية، وكانت العقوبة على إفشائها خطيرة قاسية.
العقل ينهى عن إفشاء الأسرار الشخصية وغير الشخصية، وبقدر ما يتحكم الإنسان في عقله، يستطيع الحفاظ على أسراره من الإفشاء غير المرغوب فيه.
يعتبر حفظ السر من القيم المهمة في الإسلام، إذ يعكس عقلانية الشخص ومدى حكمته في اتخاذ القرارات المناسبة لحياته، والسر أمانة، وترك إفشائه يعبر عن صدق الإنسان واستقامته، وقد حثّ الإسلام على حفظ السر واجتناب إفشائه لما يترتب على ذلك من مفاسد جَمَّة، وعواقب قد تمس الشخص نفسه أو من حوله.
ونهى القرآن عن إفشاء السِّر، وذم المفشي، وتوعَّده الله بالعقوبة في الدنيا وفي الآخرة، قال تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿83/ النساء﴾.
إن الآية الكريمة وإن كانت تنهى عن بَثِّ الإشاعات الهادفة إلى زرع الخوف والقلق في النفوس وإحداث البلبلة في المجتمع، فإنها أيضاً تعم مسألة إذاعة السِّرِّ، فقد يحدث أن يطَّلع شخص على سِرٍّ من الأسرار فلا يجوز له أن يفشيه في الناس بل يجب عليه أن يُطلع أهل الاختصاص الذين لديهم القدرة على الإفادة منه.
وذكر لنا الله تعالى في أوائل قصَّة يوسف (ع) أمر أبيه له بأن يحفظ رؤياه التي رآها كسِرٍ من الأسرار وألا يُطلع أخوته عليها، خوفاً من حسدهم له ومَكرهم به، حيث قال تعالى:
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴿5/ يوسف﴾.
إن الذي يكتم سِرَّة يحفظ نفسه ومكتسباته، ويحفظ الجماعة ومكتسباتها، ويفوِّت على أعدائها فرصة النيل منها وإيذائها، ويظل مالكا القدرة على التَّحكُّم في مصيره، رُويَ عن رسول الله (ص) أنه قال: “مَنْ كَتَمَ سِرَّهُ كانَ الخَيارُ بِيَدِهِ” ورُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: “سِرُّكَ أَسِيْرُكَ فَإِذا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ أَسِيْرَهُ”
خلاصة القول: إن حفظ السِّرِّ فضيلة تحث عليها تعاليم الإسلام وتعتبر من علامات عقل الإنسان ورشده، فالإنسان العاقل هو من يحرص على خصوصياته ويتحكَّم فيما يشاركه مع الآخرين، ويحفظ سِرَّه كما يحفظ ماله، بل يحافظ عليه كما يحافظ على حياته.