ناجي علي أمّهز ||
في عالمٍ تزدحم فيه السياسة بالصراخ والعناوين الفارغة، يندر أن يمرّ رجلٌ مثل سمير فرنجية.
كان يشبه الصفحة البيضاء في دفترٍ امتلأ بالحبر الأسود، ويشبه النهر الذي ظلّ يجري، رغم أنّ الجميع اعتاد على الجفاف.
رحل في نيسان… الشّهر الذي شهد ولادته ورحيله، كأن الزمن أراد أن يدوّر دائرته، فيُطفئ الشمعة بيده نفسها التي أشعلتها.
سمير فرنجية لم يكن سياسيًا عاديًا، بل كان أديبًا في السياسة، ومثقفًا لم يتنازل عن قلمه لصالح الميكروفون.
وقد عرفته شخصيًا في أوائل التسعينيات، خلال فترة فراري من وجه السلطة السورية، حيث جمعني به القدر بينما كنت أعمل في ورشة إعلانات في زغرتا.
رأيته هناك، لا كزعيم، بل كعامل سياسي حقيقي، يكدّ ليلًا نهارًا لتشكيل تيار يساري لا ماركسي، تيار يقف في وجه منظومة سياسية استسلمت أمام إغراء السلطة، وركعت جميع مكوناتها تحت عباءة الوصاية.
وقتها، كانت الزعامة تُقاس بقدرتك على تحرير موقوف من قبضة قوات الردع أو الدولة السورية، أما سمير، فكان يحلم بشيء آخر.
كان يحلم بالسياسي الذي يصوغ النصوص، لا الشعارات.
بالمشرّع الذي يُواكب تطوّر الديمقراطية، لا من يستنجد بالماضي لتبرير فشله.
بالقائد الذي يرى في الغد وطنًا، لا حصةً في السلطة.
لم يكن يقبل أن يكون حيًّا ميتًا، كما كثير من الساسة الذين وقفوا على باب الطاعة، يرددون “بالروح بالدم نفديك”، دون أن يدروا من يفدونه.
في نقاشاتي معه، كنت ألمس فيه عقلًا منحنيًا، لا خضوعًا، بل ثِقَلَ فكر.
كان يؤمن أن السياسي يشبه النهر، إن توقف عن الجريان، جفّ وانقطع عطاؤه.
ولذلك، كتب، وزار، وعقد المؤتمرات، وتحدث مع الجميع، من الشباب الغاضبين إلى المثقفين المنكفئين، كان يبحث عن أي ذرة ثورة في أي إنسان، يؤمن بأن الحياة تقف عند الكلمة، والخلود يبدأ عند الموقف.
ألقاب كثيرة أُلقيت عليه، لكن أحبّها إلى قلبه أن تناديه فقط: “يا سمير”.
لم يكن مكلفًا في حضوره، ولا في دعوته. كان كالنحلة، يبحث عن كلمة، ليحوّلها إلى فكرة، ثم يحوّل الفكرة إلى مشروع.
سألته يومًا، “لماذا أنت يساري؟”، فقال لي: “وأنت أيضًا يساري، كلنا يساريون أو يمينيون في عيون بعضنا.
لكن عندما يكون هدفنا بناء الوطن والإنسان، نصبح وطنيين، نُكمل بعضنا ببعض اليمين وبعض اليسار.”
حين خاض انتخابات عام 2000، قلت له ممازحًا:
“لو فزت، لكان ذلك إثباتًا على أن السوريين ديمقراطيون.”
ابتسم وقال: “وهل توقعتُ أن أفوز؟”
رجلٌ بهذا الحسّ المرهف، لم يكن يعبر على الأحداث مرورًا.
رغم كل الدم، ورغم الاغتيالات التي طالت رفاقه، كان يُخفي دمعته.
لم يكن لأنه بارد، بل لأنه كان أشدّ إيمانًا بأن لبنان يستحق كل هذا الألم.
لقد غادرنا كما أتى، في نفس اللحظة التي تبدأ فيها دورة حياة الإنسان:
ولد في 12 نيسان، وغفَت عيناه في 11 نيسان، كأنه قرر أن يسبق رحيله بيومٍ واحد، ليصل قبل الوقت، كما كان دائمًا… سابقًا لأقرانه، سابقًا لزمانه.