صلاح الزبيدي ||
في الأنبار، لا تعود أمريكا بالدبابات، بل بالمستشارين. لا تهبط بالمظلات، بل بالتفاهمات. ولا ترفع علمها، بل تكتفي بظلّه… ظلٌّ طويل يمتدّ من عين الأسد إلى مثلث الحدود، ويكاد لا يُرى، لكنه لا يغيب.
من قال إن أمريكا انسحبت؟
ربما خرجت من الباب أمام الكاميرات، لكنها بقيت عبر النوافذ الخلفية، في الخرائط، في الاجتماعات، في ردهات القرار الأمني، وفي الرؤوس التي تعتقد أن السيادة قابلة للتفاوض.
بعد “داعش”، لم تُعد الأنبار إلى أصحابها بقدر ما أُعيد ترتيبها. كل ما فعله التحرير أنه أوقف النزيف مؤقتًا، لكنه لم يُغلق الجرح. بقيت المساحات الغربية، الشاسعة والمفتوحة، من دون مشروع وطني جامع، بلا اقتصاد يعيد الناس للحياة، وبلا أفق سياسي يزرع الثقة. ومع غياب ذلك، كان من الطبيعي أن يعود من يحترف اللعب في الفراغ.
اليوم، تتهيأ الأنبار لصياغة جديدة من التموضع الأمريكي. حديث عن توسيع قاعدة عين الأسد، عن قواعد رادارية متنقلة، عن “شراكات” مع مجاميع عشائرية تحت غطاء التدريب والمشورة. أمريكا تقول إنها هنا لمحاربة “فلول الإرهاب” ومراقبة الحدود، لكن الواقع يُخبر بشيء آخر: إنها تعود كي تراقب العراق نفسه، لا أعداءه.
في غرب العراق، لا تُبنى القواعد فقط لأجل داعش. تُبنى لِمن يأتي بعد داعش. المشروع لا ينام، بل يتقلب بين أسلوب وآخر. قد لا يحمل هذه المرة اسم “الاحتلال”، لكنه يحمل كل أدواته: النفوذ، النفط، ونقاط الضغط.
تبدو أمريكا وكأنها تسابق الزمن لتثبيت موطئ قدمها مجددًا، وسط تحولات إقليمية مقلقة: تقارب سوري–تركي، تصاعد الدور الإيراني، وإعادة تموضع روسي ناعم في الميدان. في قلب هذه الفوضى، تريد واشنطن أن تُبقي يدها على الزناد، وعينها على كل من يتجاوز الخطوط الحمراء التي ترسمها من واشنطن وليس من بغداد.
والسؤال الكبير: من يُفاوض من؟
هل تفاوض واشنطن بغداد؟
أم تفاوض العشائر؟
أم تفاوض الداخل من فوق الجميع؟
هذا ما لا تقوله البيانات الرسمية، ولا تغطيه زيارات القادة العسكريين الأمريكيين “للإشراف على التعاون الأمني”.
ما يجري في الأنبار ليس عودة أمريكية، بل استمرار لمشروع لم يغادر أصلًا. فقط تغير شكله، وموقعه، ومَن يحمل ملفّه.
لكن الغرب، هذا الذي نظنه آخر البلاد، هو في الحقيقة بدايتها. ومنه تُخاط، أو تُفكك، خرائط العراق.
تبقى الحقيقة أن الأرض لا تكذب. من يُعدّ قواعده، يُعدّ لحرب، أو لما بعدها.
أما من يغطّ في صمت السيادة، فسيُفاجأ بأن البلاد تُعاد ترسيمها وهو في سباته.