كندي الزهيري ||
في كل دورة انتخابية عراقية، تتكرر ظاهرة الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات البرلمانية، لكن اللافت في السنوات الأخيرة هو التركيز المكثف على مناطق الوسط والجنوب، في حين تغيب أو تُخفف هذه الدعوات في مناطق أخرى مثل إقليم كردستان أو المناطق الغربية. هذه الانتقائية ليست مصادفة، بل تقف خلفها أبعاد سياسية وإعلامية وأمنية مركّبة، تفرض علينا أن نقف عندها بقراءة تحليلية عميقة وواعية.
أولاً: التناقض الصارخ في الدعوات
دعوات المقاطعة تُسوّق تحت لافتات براقة مثل “إسقاط الطبقة الفاسدة” أو “رفض المحاصصة”، وهي شعارات محقة في جوهرها، لكنها تُستخدم بشكل انتقائي وموجّه:
لا نرى هذه الدعوات بنفس الحدة في إقليم كردستان رغم أن الأحزاب هناك تُمسك بالسلطة منذ 1991، وتمارس نظامًا حزبيًا مركزيًا ضاغطًا…ولا تُرفع الأصوات في المناطق الغربية التي عادت بقوة للمشاركة في السلطة رغم تاريخها المعقد مع الدولة بعد 2003. السؤال هنا: لماذا يُطلب من جمهور الوسط والجنوب فقط أن “يعاقب” العملية السياسية بالانسحاب منها، بينما الآخرون يشاركون ويُعاد تدوير نخبهم السياسية بلا مساءلة؟
ثانيًا: أهداف الحملة الإعلامية.. تفكيك التمثيل الشيعي
المناطق التي يُستهدف جمهورها بالمقاطعة تمثّل العمق الديموغرافي والسياسي للشيعة في العراق. وبالتالي، فإن أي عزوف جماهيري هناك يعني تلقائيًا إضعاف التمثيل السياسي الشيعي في البرلمان والحكومة، وهذا بدوره:
يفرغ الساحة للآخرين ممن يشاركون بأقصى طاقتهم ، يُمكّن من تمرير أجندات سياسية دون مقاومة كافية من القوى الشيعية، يُظهر الشيعة كمجتمع “فاقد للثقة بالنفس” سياسيًا، بينما الآخرون يتشبثون بمصالحهم…إذن، فإن الحملة ليست بريئة، بل تهدف إلى ضرب الثقل الشيعي من الداخل عبر أدوات ناعمة: الإعلام، وخطاب الإحباط، وموجات التشكيك والتسقيط.
ثالثًا: الدور الخارجي.. هندسة الوعي الشعبي لخدمة مشاريع الهيمنة
من يتتبع مصادر هذه الحملات يجد أن كثيرًا منها مدعوم من منصات وكتل إعلامية لها صلة مباشرة بمشاريع دولية وإقليمية. الهدف هو: تقليم أظافر القوى السياسية الشيعية ذات الخطاب المقاوم أو المتمايز….إعادة إنتاج نُخَب “شيعية” جديدة أكثر مرونة تجاه المشاريع الغربية والخليجية…خلق فراغ تمثيلي يسمح بتدخلات خارجية “شرعية” بحجة “الفوضى” أو “الضعف السياسي”.
بعبارة أخرى: الحملة الإعلامية ليست نقدًا ذاتيًا بريئًا، بل مشروع هندسة سلوكية مدروسة تستهدف قاعدة الوعي الشيعي لإخراجها من دائرة التأثير السياسي.
رابعًا: الواقع لا يتغير بالمقاطعة بل بالمشاركة الفاعلة
لتجارب السياسية تثبت أن المقاطعة لا تُسقط نظامًا ولا تغيّر معادلة، بل تخلق فراغًا يُملأ بمن يريد أن يملأه، دون رقيب:
في انتخابات 2021، أدى العزوف الكبير في الجنوب إلى تقليص التمثيل النيابي الشيعي وارتفاع تمثيل كتل مدعومة من الخارج.
المقاطعة تُفقد الناس أداة الضغط الشرعي الوحيدة: الصندوق الانتخابي.لهذا، فإن المطلوب ليس الانسحاب، بل إعادة تشكيل الوعي الجماهيري نحو مشاركة منظمة، واعية، ومسؤولة، تفرض التغيير من الداخل لا بالانسحاب.
حذارِ من فخ “المقاطعة الذكية”
ما يُسوّق اليوم لجمهور الجنوب والوسط تحت عنوان “وعي” و”رفض للفساد”، هو في الحقيقة مشروع تفريغ سياسي خطير، تقف خلفه جهات تعمل بصمت على تحويل الشيعة من أغلبية عددية إلى أقلية سياسية.
وهذا لا يتم إلا عندما يُترك القرار للآخرين بينما ننشغل نحن بالتذمر السلبي والمقاطعة العبثية.
إن المعركة القادمة ليست فقط على المقاعد، بل على الهوية والدور والمصير. ومن ينسحب منها، طوعًا أو خداعًا، يُسلّم رقبة مجتمعه للآخرين على طبقٍ من شعارات براقة.