د. نشأة فائق عبد الحسين
كلية الامام الكاظم" ع "- اقسام ميسان
لاشك ان اللغة بطبيعتها المعهودة تستوعب افكاراً وادوات جديدة، وتتكيف مع كل زمان، وتعاين احداثه وما يفرزه من مصطلحات ومفاهيم جديدة، فلم نجد هناك فجوة بين اللغة والمصطلحات المستحدثة، بل هناك تعايش حميما بينهما، لأن الكيفية التي تفكر فيها اللغة بالمستقبل تبدأ من المجتمع وانعكاساته، لا سيّما ان التحول الاجتماعي قد يحدث تحولا لغويا موازيا، لذلك تؤثر اللغة في طريقة تفكيرنا الاستشرافي؛ فينتج من ذلك استكشاف دلالات،وصيغاً واستعارات جديدة، تحل محل المصطلحات القديمة التي تكون الاخيرة جذرها اللغوي، فعلى سبيل المثال ظهر مصطلح ( السخرية ) جلّيا في العصر العباسي وتحول هذا المصطلح في عصرنا الحديث الى مفهوم ( التنمر)، واخذت اللغة تواكب هذه المصطلحات وتستعمله ضمن ادواتها، بيد ان التغيير والتطور ورؤية المستقبل واستشرافه هي مبعث الحياة لهذه اللغة، فلولا التجدد والاستشراف لأصبح كل شيء راكد، ولا حياة مع الركود. لذا افرز لنا تراثنا العظيم فكرا لغوياً وعلميا خلاّق، نعده زادا ثرياً منح تاريخنا اللغوي موقعا متقدما في المسيرة الحضارية والانسانية، إذ واكب هذا الفكر اللغوي التطور الذي تشهده البشرية، وانفتح على افاقها الجديدة مرحباً بكل ما يفرزه العصر من معارف ومعلومات ومصطلحات تخدم الانسان وترتقي به نحو التقدم والابداع.
لا يستطيع الانسان ان يعيش ويتواصل مع الاخر دون اللغة، فان الابتكارات والرؤى المستقبلية التي ينتجها عقل الانسان ناتجة بالأساس من الحصيلة والانجازات الهائلة التي افرزها عقله بوساطة اللغة، واقصد في ذلك لغة التفكير والتنبؤ بما يحمله لنا المستقبل من مفاجأة؛ لأن التنبؤ مسألة محفوفة بتلك المفاجأة المستقبلية التي تنمو وتتفرع ثمارها عبر اللغة ومصطلحاتها الجديدة، فقد اخذت اللغة تفكر بالمستقبل بطريقة متفردة تختلف عن التفكير الذاتي للإنسان، فهي تفكر بطريقة التفكير الجمعي نحو المستقبل، إذ تلجأ الى ادخال بعض المفردات الرقمية، والترجمة الانية التي كشفها الذكاء الاصطناعي بأعجوبة، فاللغة تعبر عن الفكر كما يقول ( فوكو)، بل تُشكل طريقة تفكرينا نحو المستقبل، باعتمادها على مصطلحات ومفاهيم أكثر فاعلية وسرعة، إذ ان أي لغة لا تنمو ولا تزدهر بعيدا عن المجتمع وما يجري فيه من احداث، فهي البيئة الفكرية التي نحيا فيها، وحلقة الوصل التي تربط الماضي بالحاضر بالمستقبل، لذا بُنيت اللغة لنفسها مشروعاً لغويا للألفية القادمة، بوصفها وعاءً حضاريا قادرا على الاستيعاب من جهة، ومواكبة المستقبل والتعبير عنه، واعادة انتاجه بما يلائم ما هو جديد من جهة اخرى.
وعلى وفق ذلك لم تتراجع لغتنا الى الوراء، بل وقفت بوجه جميع التحديات الثقافية والفكرية والاجتماعية، المتمثلة بالغزو الثقافي وطوفان التغريب، الذي فرض هيمنته على اللغة، لكن اللغة بأصالتها، وقوة الفاظها، ورصانة معانيها، وتشعب دلالتها، بقيت صامدة امام سلسلة من الابتلاءات التي تعرضت لها الامة من غزو وحقد من قبل بعض المستشرقين الذين رموا تلك اللغة بعيوب وقصور، متناسيا ان لغتنا من أكثر اللغات وفرة للمعاني والالفاظ ، إذ تنحت من جذورها ما يعبر عن مفاهيم المعارف والعلوم الجديدة، وتهب لغيرها من اللغات ما تحتاجه، فهي لغة متطورة ومتجددة، تحمل في طياتها سر بقائها،وتتماشى مع الالفاظ والمصطلحات التي الفنا النطق بها واستعمالها مجاراةً لمعطيات العصر ومستجداته، مستوعبة علومه، ومستشرفة افاقه المستقبلية.