قاسم الغراوي ||
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تُمارس أي دولة في العالم تدخلاً عسكرياً واسع النطاق، جغرافياً وزمنياً، كما فعلت الولايات المتحدة.
أكثر من عشرين دولة تعرّضت للقصف أو التدخل المباشر أو غير المباشر، من اليابان إلى فيتنام، ومن العراق إلى أفغانستان، ومن أمريكا اللاتينية إلى الشرق الأوسط.
هذه الوقائع لم تعد موضع جدل تاريخي، وما يرافقها من أرقام ضحايا ـ مهما اختلفت التقديرات ـ يشير إلى ملايين الأرواح التي أُزهقت تحت عناوين متبدلة: نشر الديمقراطية، مكافحة الشيوعية، الحرب على الإرهاب، وحماية النظام الدولي.
غير أن الإشكالية الأخطر لا تكمن في سجل الحروب وحده، بل في ردّة فعل ما يُسمّى بـ«المجتمع الدولي». متى عبّر العالم الغربي عن غضب حقيقي تجاه هذه التدخلات؟ متى طُرحت مسألة محاسبة الولايات المتحدة في المحافل الدولية؟ ومتى فُرضت عليها عقوبات سياسية أو اقتصادية كما يحدث مع دول أخرى أقل نفوذاً؟
الواقع يشير إلى صمت شبه مطلق، يكشف أن القانون الدولي لا يُطبَّق بوصفه معياراً أخلاقياً عاماً، بل يُستخدم أداة انتقائية تخضع لموازين القوة.
الإعلام الغربي، الذي يقدّم نفسه حارساً لحقوق الإنسان، غالباً ما يلعب دور المبرّر أو المتغاضي حين تكون واشنطن هي الفاعل. القصف يُسمّى «ضربات دقيقة»، والحصار يتحول إلى «ضغط سياسي»، والضحايا يُختزلون في أرقام هامشية، بينما تُمنح الولايات المتحدة حصانة غير مكتوبة من المساءلة الأخلاقية والسياسية.
في هذا السياق، تبدو التحذيرات التي تصدر عن قوى دولية صاعدة، وفي مقدمتها الصين، أقل ارتباطاً بالدعاية السياسية وأكثر اتصالاً بسؤال أخلاقي جوهري:
من هو التهديد الحقيقي للنظام الدولي؟ هل هو الدول التي تُدان وتُعاقَب سريعاً، أم القوة التي تخوض الحروب وتفرض إرادتها ثم تفلت من أي محاسبة؟ إن ازدواجية المعايير هذه لا تقوّض الثقة بالنظام العالمي فحسب، بل تُفرغه من أي مضمون إنساني.
المشكلة اليوم لا تتعلق بأمريكا وحدها، بل بنظام دولي يسمح للقوي بأن يفعل ما يشاء، ويطالب الضعيف بالامتثال والصمت. هذا الصمت هو ما حوّل أحلام شعوب كاملة إلى كوابيس، وجعل العدالة الدولية شعاراً يُرفع انتقائياً لا قيمة ثابتة تُحترم.
وحين يفقد الضمير العالمي شجاعته، يصبح التهديد الحقيقي ليس في الحروب وحدها، بل في تطبيع الظلم والتعايش مع المجازر بوصفها أحداثاً عابرة بلا إدانة ولا مساءلة.
